"الكاردينال".. هكذا يوصف في الوسط الفني أو "عميد" الأغنية الشعبية الجزائرية، الفنان الحاج امحمد العنقى، صاحب الطربوش الأحمر "الشاشية" والشارب الخفيف والقامة الفارهة والحضور الطاغي.

ويعد العنقى "الأب الروحي" للأغنية الشعبية التي طبعها ببصمة فنية مميزة واضعا لها قواعد وأسسا لا تزال "مقدسة" لدى عدد كبير من الفنانين سواء الذين تتلمذوا على يديه أو ساروا على نهجه الفني فيما بعد.

مرت الذكرى الـ42 على وفاة الفنان الكبير الحاج امحمد العنقى (20 مايو 1907 - 23 نوفمبر 1978)، ورغم مرور قرابة النصف قرن على رحيله فإنه لا يزال يحظى بمكانة مرموقة في دفاتر الفن الشعبي بصفة خاصة، والفن الجزائري بصفة عامة، كما أن أقواله وأمثاله لا تزال تُردد بين الجزائريين

أخبار ذات صلة

حي القصبة بالجزائر ... أنين يتجدد مع زخات المطر

سيرة فنية ثرية

اسمه آيت أوعراب محمد إيدير من مواليد القصبة في الجزائر العاصمة في 20 مايو 1907 لعائلة تنحدر من تيزي وزو قلب منطقة القبائل الجزائرية، وإذا قلنا القصبة فإننا نقول مركز العاصمة ومهبط وحي الفن والإبداع، وإذا قلنا 1907 فإننا في قلب الفترة الاستعمارية الفرنسية.

بعد المدرسة القرآنية ثم المدرسة العمومية، غادر في ما بعد متفرغا لدواليب الفن الذي بدأ يستهويه، ويعود الفضل في اكتشافه إلى الشيخ مصطفى الناظور الذي أعجب به، فضمه إلى فرقته الموسيقية كضارب على آلة الدف وهو لا يزال طفلا صغيرا.

وأطلق عليه شيخه الأول الناظور لقب "العنقاء" الذي التصق به. وأثر وفاة معلمه الشيخ الناظور سنة 1925 تولى العنقى قيادة الفرقة الموسيقية، ومن هنا بدأ في تكوين نفسه، وتقول بعض المصادر أنه في هذه الفترة تحصل على لقب "الشيخ" رغم أنه كان في بداياته.

ويعتبر الحاج محمد العنقى عميد الفن الشعبي حيث تربى على يديه فنانون كبار حملوا المشعل من أمثال الراحلين الهاشمي قروابي وبوجمعة العنقيس.

وحسب المختصين في الأغنية الشعبية فإن للعنقى الفضل في التأسيس لهذا الفن، كما ساهم في إدخال عدة آلات موسيقية عملت على تغيير إيقاع هذه الأغنية لتصبح "خبزا يوميا" لا يستغني عنه الجزائري العاشق للموسيقى الأصيلة.

ومن أشهر أغاني "الحاج" التي تعتبر بصمة ملتصقة به ولا تزال محفوظة ليومنا هذا في سجلات الفن الجزائري، "سبحان الله يا لطيف"، "المكناسية"، "الحمام لي ربيتو"، "ولفي مريم"، "سيدي سحنون"، "الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا".

أخبار ذات صلة

الجزائر تبحث عن لقاح "مضمون".. وتساؤلات عن موعد وصوله

أسطورة شعبية

ويحتفظ الجزائريون بصورة مشرقة عن الفنان الراحل امحمد العنقى، رغم سنوات رحيله الطويلة، ويحتفظون بذلك الصوت القادم من أعماق حي القصبة العتيق بأزقته الضيقة وسلالمه الحجرية ومقهى "مالاكوف" الذي اعتصرت بداخله القهوة كما امتزجت معها أصوات فنانين كبار كعمر العشاب، وهنا دأب العنقي على إحياء حفلاته فيما لا تزال صوره معلقة في جدران هذا المقهى.

وسألت سكاي نيوز عربية شابا في الثلاثينات من العمر، كان داخل مقهى وسط الجزائر العاصمة يرتشف قهوته الصباحية فيما كان صوت الفنان الشعبي الراحل اعمر الزاهي يصدح بإحدى أغانيه، سألناه بماذا يحتفظ عن الفنان الراحل، فأجاب بدون تردد بعدما وضع القهوة فوق المنضدة "رحمة الله على الحاج.. العنقي عملاق من عمالقة الفن هنا في العاصمة والفن الجزائري.. إنه صوت الحكمة والشهامة حضورا وكاريزما".

بمجرد صمته، أخذ "القهوجي" الكلمة، ومن حديثه يظهر أنه من عشاق الأغنية الشعبية وقال: "الحاج العنقى مدرسة فنية جزائرية خالدة لا يمكن لأحد الوصول إلى فهم فلسفتها.. نبرات صوته والقصائد التي أداها علامة مسجلة باسمه.. رحل العنقي ورحل الزاهي.. إنها خسارة للفن الشعبي".

ظاهرة موسيقية عابرة للأجيال

ومع أن الحاج امحمد العنقي أحدث ثورته الموسيقية داخل الأغنية الشعبية الجزائرية، صوتا وإيقاعا ومضمونا فإن الثورة التكنولوجية لم تدر ظهرها له، حيث إن إطلالة على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها "الفيسبوك" تجد العشرات من الصفحات التي تحمل اسمه وتروج لأغانيه الخالدة وتعيد بث الفيديوهات التي غناها في الستينات والسبعينات بالأبيض والأسود وسجلتها التلفزة الوطنية.

كما أن هناك عدة مقالات بحثية تناولت تجربة الراحل بكثير من الموضوعية وسلطت الضوء على ثورته الإبداعية وتجديده لهذا الفن الذي ارتبط بالمواطن البسيط واهتماماته، وعن تأثيره ليس فقط في محيطه القريب في المركز "القصبة" وإنما في عدة فنانين من مختلف مناطق الجزائر.

وفي هذا السياق كتب الباحث في الأغنية الشعبية، مهدي براشد، مقالا بعنوان "ثورة الشعبي.. نوبة الجوع والحفى" في حسابه على "الفيسبوك" بمناسبة ذكرى رحيله الـ42، حيث أكد أنه عندما "نتحدث عن الشعبي، نتحدث عن الفنان الحاج محمد العنقى الذي لم يكن ظاهرة موسيقية، وحسب بل هو ظاهرة ثقافية واجتماعية طبعت القصبة باعتبارها "دزاير" وعاصمة "دزاير". فكان نموذجا للجزائري بالعاصمة، حمل آلامه وآماله بعد الاستعمار، وحمل خيباته بعد الاستقلال".

وأشار الباحث براشد في مقاله ذاته إلى "ثورات عدة أحدثها الحاج امحمد العنقى داخل هذا الفن الشعبي وبه، وأسس بها أسلوبا خاصا في الغناء والحياة قيل عنه ''العنقاوي''، أسلوب ثائر، يمكن له أن يخلق عوالم له داخل العوالم التي يرفضها، يمكنه أن ينتظر ما شاء الوقت أن ينتظر كي يتحقق حلمه في أندلس جديدة أو قصبة جديدة أو دزاير جديدة".