لا يبدو أن مشاكل فرنسا في إفريقيا في طريقها للحل، بل تزداد صعوبة، فباريس التي تلقت ضربات كبيرة بخروجها العسكري من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وإغلاق سفاراتها وتراجع نفوذها السياسي، باتت تواجه أزمة ذات جانب اقتصادي، حيث تنوي الدول الثلاث التي أعلنت خروجها من مجموعة "إيكواس"، نيتها العمل على تبني عملة جديدة لهم والتخلي عن الفرنك CFA "الفرنك الإفريقي" الذي يخضع لهيمنة البنك المركزي الفرنسي.
وأعلن الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، الثلاثاء، دعمه لاقتراح رئيس النظام العسكري في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني، عن احتمال إنشاء عملة مشتركة مع بوركينا فاسو ومالي، باعتباره "خطوة للخروج" من "الاستعمار"، وأكد تراوري مجددا رغبته في قطع جميع العلاقات مع فرنسا.
وانتشرت بالفعل شائعات عن الاسم المحتمل للعملة "الساحل"، من قبل شخصيات قريبة من الأنظمة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتم اقتراح نماذج من الأوراق النقدية المستقبلية على شبكات التواصل الاجتماعي، تحمل صورة العقيد عاصمي غويتا والكابتن إبراهيم تراوري والجنرال عبد الرحمن تياني.
وقال الجنرال تياني، مساء الأحد، على شاشة التلفزيون الوطني، إن "العملة هي خطوة للخروج من هذا الاستعمار"، في إشارة إلى الفرنك الإفريقي وفرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، وأضاف أن النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وهي ثلاث مستعمرات فرنسية سابقة تديرها الآن أنظمة عسكرية "لديها خبراء ماليون وسنقرر في الوقت المناسب".
وتابع الجنرال تياني قائلا: "العملة هي علامة على السيادة والدول الثلاث منخرطة في عملية استعادة سيادتها الكاملة"، مؤكدا أنه "لم يعد هناك أي شك في أن إمكانية بقاء دولنا البقرة الحلوب لفرنسا".
ويأتي تصريح الجنرال تياني بعد أسبوعين من انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والتي يتهمونها باستغلالها من قبل فرنسا، علما أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا عارضت الانقلابات العسكرية في الدول الثلاث، وفرضت عقوبات اقتصادية شديدة على مالي، قبل تطبيقها على النيجر.
خطوة للاستقلال المالي
الأكاديمي والخبير في الشؤون الإفريقية المقيم في باريس، محمد تورشين، يرى أن خطوة الاستقلال المالي والتمهيد نحو عملة مشتركة هي خطوة متوقعة بين الدول الثلاث التي سبق لها الانسحاب من مجموعتي الساحل والإيكواس.
وأوضح تورشين أن الأنظمة السياسية في هذه الدول تتشابه إلى حد كبير حيث أنها أنظمة عسكرية وصلت للحكم عن طريق الانقلابات، ولديها أفكار تحررية إفريقية المحور، وتتبنى أطروحات توماس سانكارا التحريرية وهو الزعيم السابق لبوركينا فاسو".
ولفت تورشين، إلى أن الأنظمة في هذه الدول تحمّل فرنسا مسؤولية كل الإخفاقات والفشل التي حدث خلال الفترات السابقة، وتريد الدول التخلص من الفرنك الإفريقي لأنه مرتبط بباريس وحقبتها الاستعارية.
وعن توقعاته بشأن العملة الجديدة، قال تورشين إن "الفرنك الإفريقي يطبع في فرنسا وتوجد بها أيضا الاحتياطات النقدية للبنك المركزي الإفريقي، ومن المتوقع أن تخرج هذه الدول من سلطة النقد المرتبطة بفرنسا والتخلي عن الفرنك، وتذهب نحو تبني عملة جديدة فيما بينهم لتكون إشارة على قوة التحالف. قد تنضم دول أخرى لهم في المستقبل. والأمر الأكثر خطورة أنه سيفتح الباب أمام دول أخرى لمراجعة التعاطي مع الفرنك الإفريقي وربما تفضيل خيارات أخرى".
ضربة كبيرة لفرنسا
الباحث في الشأن الإفريقي علي موسى علي، قال إن فرنسا "ربطت مستعمراتها في إفريقيا بعلاقات اقتصادية غير متكافئة، بحكم الهيمنة السياسية على الدول التي تعود إلى زمن الاستعمار وحتى بعد الاستقلال الذي لم يكن كاملا، حيث لا تزال باريس مستمرة في سيطرتها على تجارة وعملة المستعمرات السابقة".
وفي حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أوضح علي: "في زمن الاستعمار كانت المستعمرات تمثل أكثر من 60 في المئة من حجم التجارة الخارجية الفرنسية وبلغت حصة إفريقيا من صادرات فرنسا 8.7 في المئة بعد الاستقلال وتراجعت إلى 5 في المئة خلال الأعوام العشر الأخيرة. هذا التراجع دفع فرنسا لإعادة التفكير في علاقاتها مع القارة، وحتى فكرة التدخلات الأمنية لمواجهة الإرهاب كانت مبادرة للحافظ على نفوذها الاقتصادي والسياسي".
وبيّن علي أن فرنسا "تستحوذ على حصة كبيرة من سوق النفط والغاز في إفريقيا، تمثل 40 في المئة من إمدادات النفط الفرنسي، كما تهيمن على عملات 14 دولة إفريقية. وبسبب هذه الهيمنة التي يعزيها ارتباط عملات تلك الدول باليورو، تتمكن فرنسا من توجيه احتياطات تلك الدول حيث تتمسك بـ50 في المئة من احتياطي النقد الأجنبي الخاص بهم في الخزينة الفرنسية".
واسترسل قائلا: "سيكون لذلك تأثير كبير على اقتصاد فرنسا الذي يعتمد بشكل أكبر على ثروات القارة الإفريقية، إذ لا يمكن أن نتوقع وجود فرنسا ضمن العشرة الأوائل عالميا بدون إفريقيا".
وشدد على أن اتجاه بعض دول إفريقيا إلى القطيعة العسكرية مع باريس "يمثل مرحلة أولى نحو التحرر الكامل والمطلق من الهيمنة الفرنسية وعلى رأسها مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وأتوقع أنه سيكون هناك مرحلة ثانية للتحرير وهي الخاصة بتحرير الاقتصاد الإفريقي من القبضة الفرنسية حتى يكون لهذه الدول عملات وطنية فالسيادة الحقيقية هي السيادة الاقتصادية، وسيكون للتحرر الاقتصادي تأثير كبير على اقتصاد فرنسا الذي يعتمد بشكل أكبر على ثروات القارة".
الفرنك الإفريقي
• تعود قصة "الفرنك الإفريقي" إلى مرحلة التحرر من الاستعمار، فبعد أن نالت 14 دولة استقلالها (مجموعة الدول الفرنسية) في 1960 أرغمت باريس هذه الدول على استخدام عملة موحدة وهي "الفرنك CFA" اختصارا لـ Communauté Financière Africaine أو المجتمع المالي الإفريقي.
• ينقسم الفرنك CFA إلى مجموعتين:
- الفرنك الوسط إفريقي: يستخدم في الكاميرون والكونغو وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد.
- الفرنك الغرب إفريقي: يتداول في بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو.
• تختلف العملتان في الصور النقدية، لكنهما مرتبطتان بقوة باليورو الأوروبي بواسطة اتفاق يحدد سعر صرف ثابت لهما مقابل العملة الأوروبية
• هذا يعني أن السياسة النقدية للفرنك CFA تُحدد من قبل البنك المركزي الأوروبي.