لم تكد تمر ساعات قليلة على الإعلان عن "مذكرة الاعتقال" التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، الجمعة، بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى بدأت ردود الأفعال العالمية بالظهور تلقائيا إلى العلن، حاملةً في طياتها كافة أطياف الترحيب والتأييد والشجب والاستهزاء والاستنكار.
سيناريو يوغسلافيا السابقة
أعادت مذكرة اعتقال الرئيس الروسي إلى الأذهان شريطا مصورا طويلا لمذكرات اعتقال قديمة أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة بحق شخصيات رسمية صربية على خلفية اتهامها بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة وتطهير عرقي" في كل من حرب البوسنة والهرسك (1992-1995) ونزاع كوسوفو (1998-1999)، ومن أبرزها على التوالي:
- الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش الذي يُعتبر أول رئيس دولة في العالم يمثُل أمام هيئة المحكمة في لاهاي العام 2001.
- رئيس صرب البوسنة رادوفان كاراجيتش الذي تم إلقاء القبض عليه في بلغراد العام 2008 بعدما كان قد أمضى أكثر من 12 سنة متواريا عن الأنظار.
"استعراضات سياسية"
الباحثة السياسية الكرواتية من أصل فلسطيني، غوردانا فرسون، والمقيمة حاليا في موسكو، رأت في اتصال هاتفي مع موقع "سكاي نيوز عربية" أن مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لا تعدو عن كونها مجرد "استعراضات سياسية يلجأ الغرب الأميركي والأوروبي إلى استخدامها في أوقات الشدة"، على حد تعبيرها.
وأشارت فرسون، في هذا السياق، إلى "حالة الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير الذي كان المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو قد أصدر مذكرة باعتقاله، العام 2008، من دون أن يؤدي ذلك إلى منعه من السفر خارج السودان، وبالتالي من دون تمكّن المحكمة من اعتقاله لمقاضاته حول التهم المنسوبة إليه بشأن ارتكاب جرائم حرب في دارفور".
وحول حالة الرئيس بوتين الراهنة، توقفت غوردانا فرسون عند النقاط التالية:
- الهواجس التي تنتاب الغرب الأميركي والأوروبي جراء التقدم الذي تحرزه القوات الاتحادية الروسية على جبهات الحرب الدائرة، منذ 24 فبراير العام الماضي، في أوكرانيا.
- إعادة تصويب أنظار المجتمع الدولي، في الوقت الراهن، على جدوى الدعوة التي أطلقها بوتين، لدى انتخابه رئيسا قبل 23 عاما، بشأن وجوب العمل على إقامة عالم متعدد الأقطاب.
- التقارب الروسي – الصيني الذي أفضى إلى التنسيق الكامل بين موسكو وبكين في مجال بناء الأسس المتينة لركائز تلك الدعوة.
- نجاح الصين، مؤخرا، في إيجاد تسوية براغماتية وهادئة للعلاقات السعودية – الإيرانية التي ظلّت تتأزم، عاما بعد عام، على مدى عشرات السنين.
- توقيت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الأخيرة لموسكو، لا سيما من حيث الآمال المعلقة عليه، في موسكو وبكين، في مجال ترسيخ أسس فكرة العالم المتعدد الأقطاب في منطقة الشرق الأوسط.
- تزامُن إصدار المذكرة الدولية بحق بوتين مع احتمال اعتقال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، يوم الثلاثاء المقبل، على خلفية قضية النجمة الإباحية ستورمي دانيالز.
- إعلان الرئيس الصربي أليكسندر فوتشيتش، السبت، أن مذكرة اعتقال بوتين باتت تقرّب موعد اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
وخلصت الباحثة الكرواتية غوردانا فرسون، في حديثها لموقع "سكاي نيوز عربية"، إلى القول "إن حالتيْ الرئيسين سلوبودان ميلوسوفيتش ورادوفان كاراجيتش تختلفان تمام الاختلاف عن حالة الرئيس بوتين الراهنة، نظرا إلى أن اعتقالهما تم داخل الأراضي الصربية، ومن ثم سُلّما إلى المحكمة الجنائية في لاهاي، بينما الرئيس الروسي لا يزال صامدا وقويا في بلاده، ولن يجازف بالسفر إلى دول رحبت بإصدار مذكرة اعتقاله، مثل ألمانيا على وجه الخصوص".
تعويذة العلاقات المشتركة
في السياق نفسه، يرى الباحث الصربي المقيم في موسكو فلادا سيمونوفيتش أن "تزامُن الإعلان عن مذكرة اعتقال الرئيس بوتين، يوم الجمعة، مع التظاهرات التي شهدتها بلغراد، مساء اليوم نفسه، على خلفية الأوضاع المتأزمة بين أبناء القوميتين الصربية والألبانية في إقليم كوسوفو، يحمل في طياته رسالة تضامنية من الشعب الصربي مع الرئيس الروسي"، موضحا في اتصال هاتفي مع موقع "سكاي نيوز عربية" ما وصفه بـ"العلامات الفارقة" التالية:
• إعلان الكرملين، مطلع العام الحالي، أن موسكو تدعم ما تقوم به صربيا بهدف وضع حد للتوترات في إقليم كوسوفو الذي كان قد شهد (حينذاك) إطلاق نار وانفجارات وإقامة حواجز مسلحة على الطرق، مما أعاد إلى الأذهان المشاهد الدموية للصراع المسلح بين الألبان والصرب العام 1998.
• اليقين الراسخ لدى الشعب الصربي بأن استقالة الرئيس الروسي بوريس يلتسين، ليلة رأس السنة 1999-2000، وقيامه بتسليم مقاليد الحكم لفلاديمير بوتين بصفة رئيس بالإنابة، جاءت على خلفية الإحباط الذي شعر به الروس مما آلت إليه نتائج الحملة العسكرية الأميركية – الأطلسية على بلادهم العام 1999.
• التأكيد على متانة الروابط التاريخية القائمة بين الشعبين الروسي والصربي.
• التشديد على أن الدعم الذي قدمته موسكو لانفصال إقليميْ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، العام 2008، جاء ردا على الدعم الأميركي والأوروبي لانفصال إقليم كوسوفو عن صربيا في العام نفسه.
وخلص فلادا سيمونوفيتش في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية" إلى القول إن "متانة العلاقات الروسية – الصربية تشي بوجود تعويذة مباركة ومشتركة بين الطرفين لحماية الجسر القائم بينهما على الدوام".
شواهد التاريخ
يذكر أن الإعلان عن إصدار "مذكرة الاعتقال" بحق الرئيس فلاديمير بوتين أعاد إلى الذاكرة محطات وحقائق تاريخية من أبرزها:
• إن اعتقال الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، في شهر مايو العام 2001، جاء بعد أسابيع قليلة من خسارته معركة الانتخابات الرئاسية أمام زعيم التيار الإصلاحي، المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية، فويتسلاف كوستونيتسا.
• أمضى ميلوسوفيتش نحو 5 سنوات في زنزانته في لاهاي، رافضا شرعية المحكمة، ومدافعا عن نفسه دون محامٍ، قبل أن يلقى حتفه على سريره داخل السجن بتاريخ 11 مارس العام 2006.
• إن رئيس جمهورية صرب البوسنة التي تأسست العام 1992، رادوفان كاراجيتش، أمضى الأعوام العشرة الأولى من فترة تواريه عن الأنظار، بدءا من العام 1996 ولغاية العام 2006، داخل دير أرثوذكسي يقع على بُعد عدة أمتار فقط عن حاجز عسكري لقوات حفظ السلام الدولية العاملة في البوسنة.
• إن انتقال كاراجيتش للعيش في بلغراد وممارسة مهنة الطب البديل بين عاميْ 2006 و2008، لم يحمل في طياته أي سمة من سمات التخفي، نظرا لأن اللحية التي زعمت وكالات الأنباء الغربية أنه يتخفى بها كانت قد أُطلقت في الأصل أثناء فترة إقامته في الدير.
وضع مختلف
- وفقا لنتائج استطلاع سريع للرأي أجراه موقع "سكاي نيوز عربية" مع عدد من الباحثين في الشؤون الروسية، فإن "توقيت إصدار مذكرة اعتقال الرئيس بوتين، بالتزامن مع بروز المؤشر تلو الآخر على بداية النهاية لعالم أحادية القطب الذي سوّقت له الولايات المتحدة الأميركية، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن العشرين، يختلف تمام الاختلاف عن الحالتين الصربيتين الآنفتي الذكر، أقله من حيث أن الرئيس الروسي لا يزال يتمتع بالقوة والحماية في بلاده، خلافا للرئيسين ميلوسوفيتش وكاراجيتش اللذين ألقي القبض عليهما، داخل بلدهم، في غمرة ضعفهما، خدمة لأجندات خارجية.