على بعد آلاف الأميال من حرب أوكرانيا، برزت منطقة الساحل الإفريقي كجبهة جديدة للصراع بين روسيا والغرب أشار إليها "المفهوم الاستراتيجي" الجديد لحلف شمال الأطلسي بختام قمة مدريد، في ظل توترات تتفاقم بين الغرب ودول المنطقة.
وحددت وثيقة حلف شمال الأطلسي الجديدة التي تحدد خطط الناتو لمدة 10 سنوات مقبلة الإرهاب بإفريقيا والهجرة ضمن العناصر التي يجب مراقبتها خلال العقد المقبل، كمصدر خطر جديد على الاستقرار، وللمرة الأولى، اتفقت دول الحلف العسكري على تقديم حزمة "بناء القدرات الدفاعية" لموريتانيا، فيما وصفت موسكو بأنها "أكبر تهديد مباشر" للأمن الغربي.
وحذرت النقطة الحادية عشرة من المفهوم الاستراتيجي من التهديدات التي تواجه الحلف وشركاءه، محددة الجوار الجنوبي لحلف "الناتو" لا سيما منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل التي تواجه تحديات أمنية وديموغرافية واقتصادية وسياسية مترابطة، مشيرة إلى أن هذا الوضع يمكّن "المنافسين الاستراتيجيين" من "التدخل المزعزع للاستقرار.
تضاؤل نفوذ الغرب
ويقول الباحث السوداني في الشؤون الإفريقية صالح محيي الدين إنه خلال السنوات الأخيرة، تبنَّت روسيا استراتيجية نشطة في إفريقيا؛ أرست بموجبها وجودا عسكريا، محدودًا في العديد من بلدان القارة، ومن بينها دول الساحل الإفريقي المتحالفة مع فرنسا.
وأضاف محيي الدين، لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن هذا النهج الجيوسياسي الجديد يمثل تناقضًا صارخًا مع نهج فترة التسعينيات التي كان يهيمن عليها الضعف الكبير لنفوذ روسيا في المنطقة بأسرها، مع ترك المبادرة بالكامل للأميركيين والأوروبيين.
وأوضح أنه بعد استعادة روسيا مكانتها اقتصاديا وعسكريا أصبح الطريق ممهدًا، وفي ظل تراجع الغرب وزيادة التهديدات، بدأت موسكو تسعى بجدية إلى عقد مزيد من الصداقات، وحشد مزيد من النفوذ لتعويض العزلة الاقتصادية التي تفرضها عليها الولايات المتحدة، وترسيخ أقدام روسيا قوة عالمية ومشاركة الغرب في كعكة الساحل وثرواته.
وأشار إلى أنه مع استمرار النشاط الإرهابي في الساحل، وتلكؤ الجهات الغربية في زيادة التزاماتها الأمنية تجاه المنطقة، تتطلع روسيا إلى زيادة دورها هناك جزءًا من استراتيجيتها الأوسع نطاقًا، وهو الدور الذي أزعج الغرب.
ولفت إلى أن تعزيز نفوذ الكرملين في الساحل من شأنه أن يضع العلاقات الأوروبية والأميركية في تلك المنطقة تحت الضغط، وهو أمر يمكن لموسكو الاستفادة منه في تنافسها الجيوسياسي الأوسع مع الغرب.
واعتبر أنه مع تضاؤل نفوذ فرنسا في مجالها الاستراتيجي الإفريقي التقليدي، تصاعد النفوذ الروسي وزاد حدته مع انسحاب باريس وتدهور علاقتها مع باماكو التي وجدت في موسكو حليفا استراتيجيا يدعم دون أي ضغوط فقطعت علاقتها مع حلفاء باريس كذلك.
وأوضح أن روسيا عملت على ملء الفراغ الأميركي الأوروبي عبر علاقات أمنية أوثق دشنتها موسكو مؤخرًا مع عدد من الدول الأفريقية، واتفاقيات تعاون عسكري أبرمتها مع العديد من الدول الرئيسية في منطقة الساحل، ما دفع وزير خارجية أميركا للتنديد بتواجد قوات فاغنر.
وأكد على أن تشديد الاهتمام بمنطقة الساحل داخل وثيقة الحلف للسنوات العشر المقبلة تأتي للتأكيد على أن أي فك ارتباط من قبل الناتو أو القوى الغربية بالمنطقة ستتبعه مخاطر هائلة.
ومطلع الشهر الجاري، أعلنت باريس انتهاء عمل القوات الخاصة الأوروبية "تاكوبا" في مالي بسبب التوتر مع العسكريين الحاكمين في باماكو، مؤكدة بذلك سيناريو كان متوقعا.
و"تاكوبا" التي نجحت وزيرة القوات المسلحة السابقة فلورنس بارلي بصعوبة كبيرة في بنائها لإشراك الأوروبيين في جهود مكافحة الإرهابيين في منطقة الساحل، انهارت بعد انقلابين في مالي في أغسطس 2020 ومايو 2021، مع التدهور السريع في العلاقات الفرنسية المالية ثم رحيل قوة برخان الفرنسية التي حاربت الإرهاب هذا العام.
وتتكون دول الساحل الإفريقي من 9 دول هي مالي والنيجر وموريتانيا وتشاد وبوركينا فاسو ونيجيريا والكاميرون وإفريقيا الوسطى والسنغال، ويبلغ مجموع سكان هذه الدول أكثر من 100 مليون نسمة.
وتمتلك المنطقة ثروات هائلة من يورانيوم النيجر وثروات موريتانيا الحيوانية ومياه نهر السنغال وذهب نيجيريا والأراضي الصالحة للزراعة التي تقدر بأكثر من 35 بالمئة ونهرين في النيجر والسنغال وصحراء شاسعة يمكن استصلاحها، ناهيك عن النفط والغاز الذي تم اكتشافه مؤخرًا في المنطقة، إلا أنه على الرغم من كل تلك الثروات والتعداد السكاني تعد المنطقة من بين أكثر المناطق فقرا وظروفا معيشية صعبة.