يبدو أن تداعيات التغيرات المناخية الكارثية، وفي مقدمها الجفاف والاحترار، التي تعصف بالعالم، أصبحت تطال قارات ومناطق لطالما كانت معروفة بوفرتها المائية وبكثافة غطائها النباتي، كما هو الحال في القارة الأوروبية.
وتواجه إيطاليا موجة حر مبكرة غير عادية ونقصا في هطول الأمطار، سيما في "وادي بو" الزراعي في شمال البلاد، الذي تعرض لأسوأ موجة جفاف منذ 70 سنة.
وفي السياق، أعلنت إيطاليا حالة الطوارئ في 5 مناطق في شمال البلاد، وأقرت تمويلا عاجلا لمواجهة تداعيات موجة الجفاف، التي اجتاحت "وادي بو" في الأسابيع الأخيرة، ولا تنفك تزداد سوءا.
وللحديث حول ما يحدث في إيطاليا، كمثال على توسع نطاقات الجفاف وشح المياه والاحتباس الحراري حول العالم، يقول الخبير البيئي والمناخي وعضو الاتحاد العالمي لحفظ الطبيعة، أيمن قدوري: "الجزء الشمالي الشرقي من إيطاليا من أكثر المناطق المطيرة في القارة الأوروبية، حيث يقع حوض نهر بو بين منطقتين مناخيتين".
ويستطرد موضحا: "الأولى مناخها جبلي نموذجي، متمثلا بأقصى شرق الحوض المحاذي لجبال الألب وسط أوروبا، ويتميز بحد أدنى من التساقط المطري شتاء، يصل لأعلى مستوياته في فصل الصيف، أما الثاني فهو مناخ قاري مطير بمعدل متدن في فصل الشتاء يصل لمعدلات عالية في فصل الربيع".
ويضيف الخبير البيئي: "بعد الاطلاع على الإمدادات التي تزود نهر بو بالمياه، يتبادر للأذهان فورا أن جفافه يبدو مستحيلا، لكن ومع كل ذلك التميز الذي يتمتع به موقع حوض النهر، فإنه لم يكن كافيا ليجنب حوض نهر بو الآثار الناجمة عن الاحترار العالمي".
وفي هذا السياق، يوضح أن منطقة سهل بو تعاني من قلة تساقط الأمطار منذ أكثر من 110 أيام، مما قاد لانهيار بيئة النهر، الذي تعتمد نحو 80 في المئة من مياهه على الساقط المطري".
ويسهب قدوري في شرح مقدمات ونتائج ما يحدث في إيطاليا من موجات جفاف قياسية، قائلا: "يعود السبب لارتفاع معدلات درجات الحرارة المتسارع والمترافق مع قلة الغطاء الثلجي في جبال الألب، بسبب ندرة تساقط الثلوج في فصل الشتاء الماضي".
ويستطرد: "ما زاد الوضع مأساوية هو عدم اتباع سياسة الحفاظ على هذا المجرى المائي في إيطاليا على مدار التاريخ، بل كانت أشهر النزاعات الإيطالية الداخلية على كيفية استغلال مياه أطول أنهار البلاد لمنفعة فئة على حساب الأخرى، مما دفع باتجاه حفر العديد من القنوات المائية للمدن، أبرزها البندقية".
كما يشير إلى أنه "تم استخدام مياهه بنسبة 85 بالمئة للأغراض الزراعية وسقي المواشي، مما أدى لارتفاع تركيز النيتروجين لمستويات خطيرة، بسبب الإفراط في استعمال السماد الحيواني في الأراضي الزراعية المروية بمياه النهر، وإعادة هذه المياه بعد زيادة احتمال الملوثات فيها إلى المجرى الرئيسي".
ويتابع قدوري محذرا: "نشهد في هذه الأيام جفاف القنوات المائية لمدينة البندقية التي لطالما كانت قبلة السياحة في إيطاليا والقارة الأوروبية بشكل عام. وبهذه المعطيات التي ترجمت لواقع مأساوي تعيشه المسطحات والمجاري المائية على مستوى العالم، أصبح من الضروري أن يعي العالم برمته خطر التغير المناخي الذي سيفتك بالبشرية، إن لم يتم تدارك الأمر بوضع خارطة طريق حقيقية وعاجلة تصبو للحيلولة دون الوصول لنقطة اللا عودة".
وكانت الحكومة الإيطالية قد قالت في بيان، إنها أقرت حالة الطوارئ في 5 مناطق، هي إميلي-رومانيا، وفرويلي-فينيسيا جوليان، ولومبارديا، وبيدمونت، وفينيتو، وذلك حتى 31 ديسمبر.
وأضافت أنها قررت أيضا تخصيص مبلغ قدره 36,5 مليون يورو (39,5 مليون دولار) لمساعدة المتضررين.
وتوفر حالة الطوارئ "صلاحيات استثنائية" للمساعدة في ضمان السلامة العامة، والتعويض عن الخسائر، مع السعي لضمان ظروف معيشية طبيعية لمن هم في المنطقة.
وبحسب نقابة "كولديريتي" الزراعية، الأكبر في البلاد، فإن الجفاف يهدد أكثر من 30 بالمئة من الإنتاج الزراعي الوطني، ونحو نصف إنتاج مزارع وادي بو للمواشي.
كما تضررت بحيرتا ماغيوري وغاردا بسبب انخفاض منسوب المياه عن المعتاد في هذا الوقت من العام، بينما انخفض أيضا منسوب نهر التيبر جنوبا الذي يمر عبر العاصمة روما.
ويمثل نهر بو أكبر خزان للمياه في شبه الجزيرة، ويستخدم المزارعون معظمه. وفي الآونة الأخيرة فرضت عدة بلديات قيودا على استخدام المياه، حيث قامت مدينة فيرونا التي يبلغ عدد سكانها ربع مليون نسمة، بترشيد استخدام مياه الشرب، في حين أعلنت ميلانو، شمالي البلاد، إغلاق نوافيرها المزخرفة.
وبتسجيل مياه بو، أطول أنهار البلاد، أدنى مستوياتها على الإطلاق، فإن الخطر، وفق الخبراء، أصبح يهدد المحاصيل الزراعية والطاقة الإنتاجية للكهرباء.
ووفق موقع "بلومبيرغ"، فإن معظم أرجاء أوروبا شهدت ظروفا مناخية أكثر جفافا من المعدلات الطبيعية خلال السنة الجارية، لكن نهر بو في شمال إيطاليا هو الأكثر تضررا، وفقا لمرصد الجفاف العالمي "جيه آر سي".
ومع استنفاد مصادر المياه، سجلت خزانات توليد الطاقة الكهرومائية الإيطالية مستويات منخفضة على نحو غير مسبوق، لينخفض إنتاج الطاقة الكهرومائية، التي توفر في العادة 15 في المئة من احتياجات إيطاليا من الكهرباء، بنسبة 50 بالمئة حتى منتصف العام الجاري مقارنة بالعام الماضي.