في أحدث حلقة من مسلسل التصعيد والتأزم بين واشنطن وموسكو، أعلنت وزارة الخارجية الروسية بدء مناقشة مجلس إدارتها نسخة جديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية على ضوء الحرب الأوكرانية، والأزمة الحادة مع الغرب.
ووفق بيان الخارجية الروسية، فإن اجتماعا قد عقد لمناقشة إعداد نسخة جديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية، وفقا لتعليمات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، وأن :"الاجتماع ناقش مهام السياسة الخارجية الروسية في ضوء الحقائق الجيوسياسية المتغيرة جذريا، والتي تطورت نتيجة إطلاق العنان للحرب الهجينة المعلنة ضد بلادنا، تحت ذريعة الوضع في أوكرانيا، بما في ذلك إحياء نظرة عنصرية لأوروبا من كهف الروسوفوبيا، لإلغاء روسيا وكل ما هو روسي".
وتابعت بالقول: "إن واشنطن، وبعد أن أخضعت الغرب بالكامل، تجاوزت نقطة اللاعودة في هوسها بالتأكيد على هيمنتها الكاملة على العالم بأي ثمن، وقمع العملية الموضوعية لتشكيل عالم متعدد الأقطاب".
ويرى مراقبون وخبراء أن هذه الخطوة تعني أن التوتر بين موسكو وواشنطن قد بلغ مديات خطيرة، باتت تحتم إعادة النظر بمجمل قواعد اللعبة والاشتباك بين الجانبين في المعترك الدولي، بما يتناسب وعالم ما بعد الحرب الأوكرانية التي تمثل أخطر أزمة دولية منذ الحرب العالمية الثانية.
ويذهب المراقبون لحد القول إن هذه اللحظة تكاد تصبح فارقة ونقطة تحول في مشهد العلاقات والتوازنات الدولية، وأن صيغة عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق تكاد تلفظ أنفاسها، لصالح بروز قوى وأدوار تطالب بتعددية الأقطاب.
وتعليقا على القرار الروسي بإعادة النظر في مفهوم السياسة الخارجية الروسية وإعادة رسمها، يقول الدكتور محمد صالح الحربي، الخبير الاستراتيجي والباحث بالعلاقات الدولية، في حوار مع سكاي نيوز عربية: "نحن على أعتاب دخول هذه الحرب شهرها الرابع، وهي حرب مختلفة تماما عن الحروب التقليدية المعهودة، فنحن نشهد حربا متشعبة الجبهات والمجالات، فهي حرب طاقة وغاز وحرب تكنولوجية ومعلوماتية، وحرب نفسية واستخبارية، وهكذا دواليك".
مردفا: "لدرجة أن العالم بأسره يقف على أطراف أصابعه بفعل تأثره الشديد بتداعيات هذه الحرب الخطيرة وبخاصة على الأمن الغذائي للعالم أجمع، وتعطل وتضرر سلاسل التوريد والإمداد في هذا الإطار، لدرجة أن المنظمات الأممية والدولية تتحدث عن بدء أزمة غذاء عالمية، وعن إطلال شبح المجاعة حتى في العديد من بقاع الأرض بفعل تبعات الأزمة الأوكرانية".
ويتابع الحربي: "نحن أمام رسم خارطة جيوسياسية جديدة للسيطرة والنفوذ حول العالم، بناء على نتائج حرب كسر العظام وتداعياتها المستقبلية هذه، وفي غضونها تتصارع رهانات كسب الوقت والاستنزاف ومن سيصرخ توجعا وألما قبل الآخر، لكن في النهاية لا بد من التوصل لحلول وسط كون التكلفة باهظة جدا على العالم ككل، حيث أن أكثر من 52 دولة باتت متلكئة في تسديد ديونها، كما أن 12 دولة باتت عاجزة تماما عن سدادها، وقس على ذلك".
وعليه يرى الخبير الاستراتيجي والعسكري أن: "الإعلان الروسي هذا يتسق تماما مع سعي موسكو لتوظيف وتفعيل مختلف أوراق وأدوات الضغط لديها ضد واشنطن والناتو، عبر العمل على إعادة النظر بسياساتها الخارجية حيالهما، وهي سبق لها قبلا حتى إصدار قائمة بالدول غير الصديقة تقدمتها الولايات المتحدة".
وهكذا، يضيف: "فالدول المتحاربة والمتصارعة عادة ما تتبادل الإجراءات العقابية في أوقات الأزمات والحروب، وتراجع مجمل مواقفها وسياساتها على ضوء ذلك، خاصة وأن حجم الضخ المالي الهائل من قبل الغرب نحو أوكرانيا، والتي تكاد بناها التحتية تدمر تماما على يد الجيش الروسي الذي فصل تقريبا الشرق والجنوب الأوكرانيين عن بقية مناطق البلاد، يثبت أن اللعب بات على المكشوف وأن الحرب في حقيقتها هي بين روسيا وأميركا".
فهي حرب محمومة كاملة الأركان بين الطرفين الروسي والأطلسي، كما يرى الحربي، مضيفا: "وهكذا مراجعات وتعديلات في السياسات الخارجية وفي مجمل المضامير الدفاعية والاقتصادية والأمنية وغيرها، هو أمر متوقع ومن كلا الطرفين المتنازعين، ووفق ذلك يمكننا فهم إعلان موسكو هذا عن اعتزامها بلورة مفهوم جديد للسياسة الخارجية لروسيا، على ضوء هذه الحرب وما أحدثته من اصطفافات وتموضعات دولية، بمعنى أننا حيال عالم جديد يتشكل ما يقتضي إعادة تشكيل السياسات والاستراتيجيات".