في وقت تجددت فيه هجمات المسلحين المتطرفين على السكان المحليين في كل من مالي وبوركينا فاسو بأقصى غرب إفريقيا، ارتفعت الأصوات الشعبية والسياسية الفرنسية المطالبة بسحب الجنود الفرنسيين من تلك المنطقة، بعدما ارتفع عدد الجنود الفرنسيين ضحايا تلك الهجمات إلى أكثر من 50 جنديا.
الهجمات الإرهابية الأخيرة خلال اليومين الماضيين، والتي أودت بحياة 18 شخصا، ونُفذت بنفس الأسلوب في كل من مالي وبوركينا فاسو، أثبتت للمتابعين بأن المهمة العسكرية لمواجهة المتطرفين في منطقة الساحل الغربي الإفريقي ليست بالقصيرة، وأن فرنسا وحدها لن تتمكن من قيادة جهود الرعاية الدولية لجيوش وأجهزة أمن دول تلك المنطقة، التي تضم كلا من مالي وتشاد وبوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا، والتي تشهد منذ قرابة عشرة سنوات نموا مطردا للحركات المتشددة، مستغلة بيئتها الجغرافية الصحراوية الصعبة، وبنيتها القبلية الأهلية المعقدة.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي شارك عبر الفيديو في قمة جمعت قادة دول الساحل الإفريقي في العاصمة التشادية نجامينا، للمجتمعين وللقوى الدولية إن: "الوجود العسكري الفرنسي في الساحل الإفريقي لن يتغير في الأشهر المقبلة".
وأضاف ماكرون في مؤتمر صحفي عقد عقب انتهاء أعمال القمة، بأنه أخبر نظراءه الأفارقة: "سيتم بلا شك إجراء تغييرات كبيرة على نظامنا العسكري بمنطقة الساحل في الوقت المناسب، لكنها لن تحدث على الفور".
وتابع قائلا إن "انسحابا مكثفا للقوات الفرنسية، سيكون خطأ. سيكون من المفارقات إضعاف نظامنا في وقت لدينا فيه توافق سياسي وعسكري يمكّننا من تحقيق أهدافنا".
وفي أواخر العام الماضي، طرحت فرنسا رسميا فكرة إمكانية انسحاب بعثتها العسكرية من الساحل الإفريقي، عبر رئيس أركان جيوشها فرانسوا لوكوانتر، الأمر الذي اعتبره المراقبون وقتها رسالة واضحة للشركاء الأوربيين وإلى الولايات المتحدة، حيث كانت توجهات إدارة الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب تقتضي بخفض مستويات التعاون المشترك لدول حلف الناتو داخل القارة السمراء.
وتراجعت فرنسا نسبيا عن موقفها، بعد تلقيها تطمينات من الإدارة الأميركية الجديدة، وعقب محادثة مطولة أجراها ماكرون مع نائبة الرئيس الأميركي كاميلا هاريس، التي نقلت له إصرار الإدارة الجديدة للعودة إلى "تنشيط التعاون العسكري عبر الناتو، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا".
وكانت فرنسا قد تدخلت أول مرة في منطقة الساحل الإفريقي الغربي في العام 2012، لمواجهة "تمرد انفصالي" كانت تقوده قبائل الطوارق شمال مالي، من خلال عملية أطلق عليها اسم "برخان".
وما لبثت أن تحولت الحرب لمواجهة بين فرنسا والجيش النظامي المالي من جهة، ومجموعات من المتطرفين من جهة أخرى، حيث أختار هؤلاء تكتيك التبعثر في البيئات المحلية لمختلف دول الساحل تلك، خصوصا بين القبائل الرُحل.
وبات هؤلاء المتشددين يشنون هجمات متفرقة على نقاط تمركز الجيش الفرنسي ومعسكرات الجيوش النظامية لتلك الدول، وفي مرات غير قليلة على السكان المحليين، الأمر الذي دفع بالمحللين العسكريين للتشكيك بإمكانية نجاح آليات الحرب التقليدية لدحر هذه التنظيمات.
وأشار تقرير لموقع "لا كروس" الفرنسي، حمل عنوان "عملية برخان: ما هي العواقب في حال انسحاب فرنسا من الساحل؟"، لمخاوف الإدارات الأمنية من مخاطر إقدام فرنسا على فعل ذلك.
التقرير الذي كتبه المختص في الشؤون الأمنية الإفريقية لوران لايشر، قال: "إذا فشلت الجيوش الإفريقية، فماذا يمكن أن يحدث؟. في الإليزيه، نخشى تأثير الدومينو، سواء في منطقة الساحل أو في دول خليج غينيا. يُتوقع أن منطقة الساحل ستقع في شكل من أشكال الاستبداد والتطرف إذا انسحب فرنسا، فالنظم هناك يمكن أن تقع في أيادي متطرفين في مالي، وسيسعون لزعزعة استقرار النيجر وبوركينا فاسو، وكذلك شرق السنغال والشمال من ساحل العاج. إن الكثير من دول ومجتمعات غرب إفريقيا ستثيرها الاضطرابات، التي من شأنها أن تعرض للخطر جدول أعمال التنمية بأكمله في هذه المنطقة".
وعن الحلول والأفاق التي تنتظر القرار الاستراتيجي الفرنسي، نشر تلفزيون " إفريقيا" الفرنسي تقريرا على موقعه الإلكتروني، أشار فيه معّد التقرير بيير ديسورغ إلى تلك الخيارات الفرنسية: "تفضل باريس محورين لتخفيف وجودها العسكري هناك: المحور الأول تجسده المجموعة الجديدة من القوات الخاصة (تاكوبا)، والتي يشارك فيها العشرات من الجنود الإستونيين والتشيكيين والسويديين، في محاولة فرنسية لـ (تدويل) الصراع. المحور الثاني يدور حول تعزيزات جيوش "جي 5" الساحلية. على الأرض، سيتعين على الجيوش الفرنسية تسليم القيادة تدريجيا إلى الجيوش الوطنية التي تتكون من مجموعة الدول الخمس المُدربة من قبل الجنود الفرنسيين وقوات الاتحاد الأوروبي. ولكن هناك طريق طويل لنقطعه، لا يزال جنود هذه الجيوش غير مجهزين ولا يتمتعون بالتدريب الكافي، وبالتالي فهم عرضة لهجمات المتطرفين، وربما عُرضة للهزيمة".