في أحدث فصول الحرب الكلامية المندلعة بين أنقرة وباريس منذ أشهر، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، "إن الرئيس إيمانويل ماكرون مصيبة لبلاده، وفي ظل رئاسته، تمر فرنسا بفترة خطيرة جدا"، بحسب تعبيره.
ولم يقف أردوغان عند هذا الحد في مهاجمة ماكرون، بل أعرب عن أمله في "أن تتخلص فرنسا من مشكلة ماكرون في أسرع وقت ممكن"، بحسب تعبيره.
وتكشف هذه التصريحات محاولات الرئيس التركي لتوظيف عدة أوراق ضد الرئيس الفرنسي، بعدما ظل ينشئها لعدة سنوات داخل البلد الأوروبي.
ودأبت الصحف الفرنسية منذ مدة على نشر تحقيقات تتحدث عن "اختراق تركي للمجتمع الفرنسي" وعن "شبكات أردوغانية للتأثير الداخلي في فرنسا"، وقد توزعت هذه الشبكات ضمن عدد من المنظمات الفرنسية ذات الولاء التركي والجمعيات والمساجد.
وضمت هذه الشبكات أئمة المساجد الذين يروجون لسياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، وقوامها الرئيسي الجالية التركية الكبيرة في فرنسا، والتي يناهز عددها 700 ألف نسمة.
وسرعت الهجمات الإرهابية الأخيرة وتيرة الجدل الفرنسي الداخلي حول التأثيرات الخارجية التي يتعرض لها المسلمون في فرنسا، وعلى رأسها أئمة المساجد الأجانب والتمويل الخارجي للمساجد والجمعيات الإسلامية.
وكان وزير الداخلية جيرالد دارمنان، قد تحدث عن خطة "كسر التأثير" عقب اجتماع مجلس الدفاع الوطني في 30 أكتوبر الماضي، والتي تنفذها أجهزة المخابرات الفرنسية بجميع مستوياتها.
وتراهن الخطة على منع تأثير الدعاية الخارجية تجاه المسلمين المعتدلين الذين أصبحوا مهددين بالانزلاق نحو التطرف بعد الحملة القوية التي شنتها تركيا ضد فرنسا.
منظمات وجمعيات
وتحاول تركيا السيطرة على الجاليات المسلمة في فرنسا، من خلال عدد من المنظمات، التابعة لها أو القريبة منها، لعل أبرزها، اللجنة التنسيقية لمسلمي تركيا في فرنسا، وهي منظمة تابعة إدارياً ومالياً للدولة التركية، وهي الفرع الفرنسي لرئاسة الشؤون الدينية التركية وتدير نحو 300 مسجداً من جملة 2500 مسجداً وبيت صلاة في فرنسا.
كما تقوم هذه المنظمة بجلب 151 إماما سنويا من تركيا، حيث يتلقون تعليما دينيا، وتدفع أجورهم مباشرة من الحكومة التركية، وتدير كلية للتعليم الديني في مدينة ستراسبورغ (شرق) باللغة التركية.
ويتزعم التنسيقية رجل الأعمال التركي، أحمد أوجراس، العضو في حزب العدالة والتنمية الحاكم وأحد أقارب زوجة أدروغان، وبفضل الدعم المالي والسياسي الذي حظي به لسنوات انتخب في 2017 رئيساً لمجلس رئيس الفرنسي للديانة الإسلامية، أعلى هيئة تمثل المسلمين في فرنسا، في خطوة اعتبرها مراقبون اختراقاً تركيا غير مسبوق للساحة الفرنسية.
كما تلعب "حركة ميللي غوروش"، وهي الفرع الأوروبي لحركة نجم الدين أربكان، دورا رئيسيا في النفوذ التركي في فرنسا، حيث تسيطر على حوالي 300 جمعية داخل فرنسا وتدير عدداً من المساجد، وهي حركة تأسست في الستينات وتمثل تيار الإخوان المسلمين.
ويستفيد أردوغان من دعم غير محدود من "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"؛ الفرع الفرنسي لجماعة الإخوان المسلمين، لاعتبارات ايدولوجية، حيث أصبح التنسيق بين المنظمات التركية والاتحاد واضحاً منذ سنوات، وبدا أكثر وضوحاً عندما دعم الإخوان صعود التركي أوجراس إلى قيادة مجلس الديانة الإسلامية بعد سنوات من رئاسته المغاربية.
ووصفت مجلة "ماريان" الفرنسية أوجراس بأنه "مدافع شرس على سياسات أردوغان على وسائل الإعلام الفرنسية ويحاول التأثير على خيارات باريس في مواجهة أنصار فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني، أشرس الأعداء الحاليين لأردوغان، ويريد إجراءات انتقامية، ضدهم، مطالباً باريس بأن تغلق مدارس غولن الدينية وتحظر الجمعيات الكردية بحجة تواطئها المفترض مع الإرهاب، كما هو الحال في تركيا".
توظيف الجالية
وتشير وسائل إعلام فرنسية إلى الصلة القوية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبين حركة الذئاب الرمادية المحظورة، لاسيما عند استحضار ما قامت به ضد الجاليات الأرمنية، مؤخرا، في ظل حرب التصريحات بين الرئيس التركي ونظيره الفرنسي، على خلفية مقتل المدرس صامويل باتي وقضية الرسوم الكاريكاتورية.
وقررت الحكومة الفرنسية، في 5 نوفمبر الماضي، حل حركة الذئاب الرمادية التركية القومية، على خلفية ترويجها للكراهية وارتكاب أعمال عنف على الأراضي الفرنسية.
وجاء قرار الحلّ بعد أيام قليلة من نزول نحو 250 شخص، يعتقد أن أغلبهم ينتمون لحركة الذائب الرمادية في مدينة ديسين-شاربيو قرب ليون، شرق البلاد، للشوارع ومهاجمة مواطنين من أصول أرمنية، بسبب النزاع في إقليم ناغورني قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان التي تدعمها تركيا، مما أدى إلى سقوط 4 جرحى، أحدهم حالته خطرة. كما كتبت عبارة "الذئاب الرمادية" على نصب تكريمي لضحايا الإبادة الأرمنية والمركز الوطني للذاكرة الأرمنية.
وتضم حركة الذئاب الرمادية القوميين الأتراك وتنشط في العديد من البلدان الأوروبية، خاصة في الأماكن التي تضم جاليات تركية كبيرة، وتحمل أفكاراً عنصرية تجمع بين التفوق العرقي والتطرف الديني، ويقودها داخل فرنسا أحمد جتين، المتهم قضائيا "بالتحريض على الكراهية".
من جانبها، اتهمت صحيفة أحوال التركية المعارضة، في تقرير لها، أردوغان، بأنه "يستغل الجاليات التركية والمسلمة في أوروبا، خاصة في النمسا وألمانيا وفرنسا، من أجل الضغط على الدول التي يقيمون فيها، ليقدّم نفسه زعيما ممسكا بخيوط اللعبة، وأنّ بإمكانه إثارة الفوضى في تلك البلدان حين يريد، وأن ثمن ذلك سيكون صمت أوروبا على سياساته، أو عليها مواجهة الغضب الذي يمكن أن يثيره في مجتمعاتها".
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد دعا إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، وأشار إلى أن نظيره الفرنسي يحتاج إلى "فحص صحته العقلية"، وذلك رداً على خطاب ماكرون عقب قتل المدرس صمويل، وذهبت وكالة الأنباء التركية الرسمية إلى حد القول بأن السياسة الفرنسية تستعيد ما وصفتها بـ"أحقاد الحروب الصليبية".