في خطوة غير مسبوقة اعتمد مجلس النواب الأميركي بأغلبية ساحقة القرار رقم 296 والذي يقضي بالاعتراف بقيام تركيا بارتكاب مجازر وإبادة جماعية ضد العرق الأرمني في تركيا وما حولها أوائل القرن العشرين ، وقد جاء التصويت بموافقة 405 نائب لصالح القرار و11 ضد.
الشاهد أنه طوال عقود لم تكن القبضة الأميركية قوية في مواجهة تركيا مثلما هي الآن ، وربما هذا هو ما يسر سعي مجلس النواب في هذا الطريق، وأغلب الظن أن قرارا آخر سيتبعه من مجلس الشيوخ.
رفض رؤساء أميركا مسبقا الاعتراف بإبادة الأرمن رغم علمهم التام بما جرى، فقد كان هناك حرص شديد على عدم إغضاب تركيا انطلاقا من الدور الذي تلعبه كراس حربة في مواجهة حلف وارسو ، وأهمية قواعد الناتو العسكرية على أراضيها.
غير أن الواقع اليوم يؤشر إلى غضبة أوربية وأميركية كبرى على الدور المخرب الذي تقوم به تركيا -أردوغان على صعيد الاستقرار العالمي، ولهذا تعلو أصوات كثيرة مطالبة بإنهاء عضوية تركيا في حلف الناتو، الأمر الذي جعل طريق مجلس النواب مفتوحا على مصراعيه لقرار الاعتراف رسميا بما ارتكبته الأيادي التركية ذات يوم .
ولعله يعن لنا التساؤل :"هل كانت الاعتداءات الوحشية الأردوغانية الأخيرة على مناطق الأكراد سببا محفزا على الموقف الأميركي الأخير؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك فمشاهد الأكراد القتلى والجرحى، ناهيك عن المشوهين من جراء الأسلحة الفسفورية الممنوعة دوليا، وبقية المناظر البربرية التي راها العالم في المدن والقرى الكردية على الحدود السورية التركية، أعاد للعيان ذكرى ما جرى قبل مائة عام ولا يزال عالق في الأذهان .
السلطان الأحمر وإبادة الأرمن
بدأت وقائع الإبادة الأرمنية في عهد السلطان الأخير للعثمانيين عبد الحميد، وبالتحديد في 24 إبريل من عام 1915، عندما ألقت السلطات التركية القبض على عدة مئات من المثقفين والأعيان الأرمن في الداخل التركي ووقتها كان حزب " تركيا الفتاة "، المعروف باتجاهاته المتشددة والراديكالية في الحكم وقد كان جلهم يسكن العاصمة القديمة القسطنطينية أي اسطنبول حاليا، ولاحقا قامت بترحيلهم إلى منطقة أنقرة وقد لقى معظمهم حتفه في آخر الأمر .
كانت هذه البداية، والذريعة أن هؤلاء ولاءهم مشكوك فيه وأنهم يدعمون روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى، ولاحقا أخذت السلطات العثمانية في ترتيب وتدبير عمليات تهجير واضطهاد منظم للأرمن، وقامت بالكثير من التهجير القسري لمئات الآلاف من السكان الأرمن من منازلهم في القرى والمدن، تحت مظلة قانون " التهجير ".
تركيا وحشية وجريم سياسية
طوال أربع سنوات أو أزيد قليلا ارتكب الأتراك جرائم وحشية تجاه الأرمن المهجرين، إذ بدأ الأمر محاولة حقيقية لإبادة شعب بأكمله، والذين يعودون إلى المصادر التاريخية التي روت ما حدث يشهدون كيف كان جنود الخليفة يلهون بالرهان على نوع الجنين في بطن الأرمنيات الحوامل، ثم يقومون ببقر البطون لإخراج الجنين والتأكد من الرهان، وتحفظ عدة أرشيفات دولية صور للرجال الأرمن المذبوحين بوحشية والمقطوعة رؤوسهم والمعلقة على الأبواب كما فعل داعش مؤخرا، ناهيك عن النساء الأرمنيات المغتصبات والمصلوبات على الطرقات في طريق التهجير.
كان الهدف التركي المؤكد هو إزالة العرق الأرمني القاطن في وطنهم، بهدف تحقيق ما كانوا يطلقون عليه وحدة الشعوب ذات الأصل الطوراني ، والطورانية هي حركة قومية تهدف إلى تتريك الدولة العثمانية بما في ذلك العناصر غير التركية.
تركيا والانكار المستمر
والثابت أنه من زمن السلطان الأحمر وحتى أوان الأغا العثماني إردوغان، ينكر الأتراك حقائق الإبادة التي جرت بها المقادير، وجميعهم يرفض الاقرار بمسؤولية تركيا عن تلك الإبادة، هذا على الرغم من أن النمسا وألمانيا وهما كانتا دولتين حليفتين لتركيا في زمن الحرب العالمية الثانية، قد اعترفتا منذ ثلاث سنوات بأن ما ارتكبته تركيا في حق الأرمن هو جريمة إبادة كاملة الأركان وفقا للتعريف والتفصيل الواردين في اتفاقية الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنع والعقاب على ارتكاب هذه الجريمة الشنيعة، التي توصم بكونها جريمة من الجرائم الدولية ، والجريمة النموذج للجرائم ضد الانسانية.
على أن مسالة الانكار التركي لا يمكن لها أن تقوى ضد الشهود التاريخيين، وكذا أمام اعترافات بعض من جنرالات الأتراك أنفسهم، وهنا يخبر أحد المؤرخين الألمان الذين عاشوا في تركيا في تلك الفترة ويدعي " ليبسيوس اللوثري "، عما جرى من مجازر ، ففي أثناء الحرب العالمية الأولى بدأت مشانق الأرمن العلنية بعد بضعة ساعات من توقيع الاتفاقية السرية بين تركيا وألمانيا، حيث أعلن حزب الاتحاد والترقي التعبئة العامة، ونتيجة لذلك جرى استدعاء كل أرمني سليم إلى الخدمة العسكرية.
وشمل الاستدعاء الأول الأشخاص في الأعمار بين 20-45 سنة، ولاحقا استدعاء آخر شمل الأعمار ما بين 18-20 ، والأخير ما بين 45-60 سنة الأمر الذي يعني أن القرى الأرمنية قد فرغت من رجالاتها، وعليه فقد جرى نهب قرابة خمسة آلاف قرية أرمنية وقتل نحو ثلاثين ألف في ليلة واحدة.
وبعد هزيمة تركيا في معركة "ساريقميش" مع روسيا في يناير 1915، تم ذبح الآلاف من الأرمن بعضهم من الرقبة وتم دفن آخرين أحياء، ومنهم 2500 في ساعة واحدة في محيط مدينة : وان "، وبعد بضعة أيام ارتفع العدد إلى خمسين ألف.
وكان الهجوم على تلك المدينة نتيجة تحريض وخطاب كراهية من جانب أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وهو الأمر الذي اعترف به لاحقا جنرالان تركيان هما إبراهيم عباس، وحسان تاشين، وتحت التهديد بالإعدام ، جرى منع السكان المسلمين من حماية الأرمن.
الأرمن والأرشيف السري للفاتيكان
ولعل الأرشيف السري لحاضرة الفاتيكان وهو أهم أرشيف يوجد في الغرب بشكل عام، يكشف عن جوانب غير معروفة من إبادة الأرمن، لا يستطيع معها إردوغان ومن لف لفه إنكار ما حدث.
القصة هنا مدخلها المؤرخ الألماني " مايكل هيسمان " ، والذي اكتشف رسالة بعنوان " اضطهاد الأرمن"، حين كان يقوم بأبحاث حول حياة " اوجينيو باتشيلي"، الذي أصبح تاليا البابا بيوس الثاني عشر.
في الرسالة المشار إليها نجد رئيس أساقفة كولونيا الكاردينال " فون هارتمان " يكتب قائلا :" إن اضطهاد الأرمن ليس أقل همجية من اضطهاد المسيحيين في القرون المسيحية الأولى "، وكان رئيس الأساقفة يطالب ألمانيا بالتدخل عند حليفها التركي لوقف هذه الفظائع لكن دون جدوى .
ويعيد المؤرخ " هيسمان " رسم محاولات البابا بندكتس الخامس عشر ، لإنقاذ الأرمن ، فيشير إلى أنه كتب إلى السلطان محمد الخامس لمناصرة القضية الأرمنية، لكن يبدو أن السلطان لم يقرأ الرسالة حتى، وقد بذل القاصد الرسولي في القسطنطينية المونسينيور دولشي، كل الجهود من أجل التدخل دبلوماسيا إلا أنه اصطدم بحواجز عديدة، وعلى الرغم أنه تمكن لاحقا، من الحصول على موعد بمساعي السفيرين النمساوي والألماني، إلا أن ذلك قد جرى بعد أربعة أسابيع من تفشي القتل والذبح واللذان كانا قد استشريا، ورغم أنهم وعدوه بأن القتل سيتوقف وبأن المرحلين سيعودون إدراجهم وبأن هذه المجموعة أو الأخرى من المسيحيين لن تستهدف، إلا أن هذا كله في نهاية المطاف كان مجموعة من الأكاذيب لا أساس لها فقد استمرت أعمال الإبادة .
الإبادة الأرمنية والفاشية التركية
فتح قرار مجلس النواب الأميركي الأخير شهية المؤرخين والمحللين السياسيين والأمنيين للمقاربة بين توجهات الجماعات الإرهابية الأصولية مثل القاعدة وداعش، وما قامت به تركيا في أوائل القرن المنصرم من وحشية تجاه الأرمن، وهنا طفا على السطح سؤالا جوهريا :" هل ما عرفته تركيا وقتها هو شكل من أشكال الأصولية المبكرة أم الأمر على غير ذلك ؟.
الشاهد أن المراقب المعاصر قد يميل متأثرا بإخبار وفظائع داعش التي تستهدف الأقليات المسيحية والإيزيدية وغيرها إلى تشبيه إبادة الأرمن بما يحصل حاليا، إلا أن بعض المؤرخين المعاصرين ومنهم البروفيسور "هيسمان " يرى أن المشهد التركي كان أسوأ بمراحل مما هو الآن ، إذ يذكر بالدور الأساسي الذي لعبه حزب الشباب الأتراك، أولئك الذين لم يكن شعارهم صيحات التكبير، بل " حرية ، مساواة ، أخاه ".
ويضيف : لم يكن من بين المسؤولين السياسيين أي متطرف مسلم فلم يكن الشباب حزب أصولي ، كانوا شباب، طلاب ثورة ، درس أغلبهم في باريس حيث اكتشفوا الماسونية وطرائقها، وتأكيدا على ذلك يذكر المؤرخ أن طلعت بك ، وزير الداخلية التركي في العام 1915 ، الرجل المسؤول عن الإبادة الأرمنية، كان عميد المحفل الماسوني المعروف باسم المشرق التركي الكبير.
في هذا السياق يمكن القطع بأن ذنب الأتراك تجاه الأرمن يتخطى الأصولية الدينية ليلامس الفاشية البدائية إذ اعتبروا أن وحدة الأمة لا تتحقق من خلال نقاء العرق بل الدين ، والذي استخدم لأهداف سياسية. كانت الخلفية إيديولوجية، وهي أن الدول المتجانسة دول قوية وكان من الواجب جعل الدول التركية متجانسة .
تركيا ومخاوف جسيمة مستقبلية
ما الذي يجعل تركيا جزعة وخائفة على هذا النحو بعد قرار مجلس النواب الأميركي ، ومحاولة أردوغان إظهار أن بلاده غير معنية بالقرار وتصريحه الأخير بأنه " قرار لا قيمة له "؟.
باختصار غير مخل يمكن القول أن جرائم الإبادة والكراهية لا تسقط أبدا بالتقادم، وعليه فإن تركيا تعرف تمام المعرفة أن القصاص آت لا رب فيه، وربما يعقد أردوغان مقاربات في ذهنه بين مستقبل بلاده وماضي ألمانيا النازية حيث شكلت محكمة نورمبرج عامي 1945 و 1946 لمقاضاة كبار مجرمي الحرب النازيين، فضلا عن إجبار الألمان بالإقرار بجرائم الإبادة الجماعية، ناهيك عن التعويضات المالية التي توجب على الحكومة الألمانية دفعها، وجميعها لا يجوز فيها العفو، ولا يجوز أيضا لمرتكبيها الدفع بصفتهم الرسمية وأن علت مراتبهم.
ما يخيف أردوغان من القرار الأميركي يتجسد فيما هو أكثر من العقوبات الأميركية المرتقبة من اقتصادية أو عسكرية، إنسانية وأخلاقية ، ، ذلك أن جريمة تركيا لا تزال مستمرة وستستمر حتى اعتراف الدولة التركية الحديثة بالجريمة والاعتذار عنها ودفع التعويضات المادية والمعنوية وإعادة الأراضي إلى الشعب الأرمني.
الحقيقة التي يعرفها أردوغان وتطارده في صحوه ومنامه هي مسؤولية تركيا الحديثة في الاعتراف والاعتذار والتعويض وإعادة الأراضي لأصحابها ، مع الاخذ في عين الاعتبار ان جريمة الابادة لا تتأثر بتغيير الحكومة او النظام ، فلا تعديل او تغيير الدستور ولا الانقلاب و لا الثورة ترفع المسؤولية عن الدولة.
فالحكم استمرارية من السلطان العثماني الى حزب الاتحاد والترقي الى مصطفى كمال اتاتورك الى الحكومات المتتالية وصولا إلى زعماء تركيا اليوم .
الإبادة والتكييف القانوني
ما الذي يمكن أن نختتم به هذه السطور التي تعبر في تواضع وباختصار غير مخل قصة إبادة الأرمن ؟.
يمكن القول أن المبدأ القانوني العام واضح " أن الحق لا يمكن أن ينشا عن باطل "، فلا يمكن لتركيا الادعاء بداية بحقها في الأراضي التركية المحتلة أو المطالبة بها بموجب القانون الدولي بناء على " أن الذي يأتي طلبا للعدل يجب أن يكون طاهر اليدين "، وتركيا أياديها مخضبة بالدماء في الماضي والحاضر.
إضافة إلى ما تقدم فإن تركيا الحديثة تتحمل مسؤولية مجازر الأرمن كاملة على أساس معاهدات برلين 1878 وسيفر 1920 ولوزان 1923، أنها تتحمل المسؤولية انطلاقا من كونها هي من أخلت بواجب الحماية وقامت بحيازة ومصادرة املاك تعود للأرمن، والمسؤولية تتحملها بموجب قرارات عصبة الأم المتحدة، وعن عدم مقاضاة ومعاقبة مدبري ومنفذي المذابح ومجرمي الحرب.
السؤال الحيوي والجوهري الآن هل سيمضي مجلس الشيوخ الأميركي في نفس طريق مجلس النواب؟.
أغلب الظن أن ذلك سيحدث والكرة ستضحى لاحقا في ملعب الرئيس ترامب، ما يلقي بتبعات مسؤولية أخلاقية جسيمة على عاتقه، وسوف يذكر التاريخ أن كان هو الرئيس الذي تمتع بمصداقية كبرى في إقرار هذا الاعتراف ، أم أنه الميكيافليي الذي تهرب من تبعات الاعتراف بحقيقة تقرها أكثر من ثلاثين دولة حول العالم.