خروج من "خشبة" المسرح التقليدي إلى الفضاءات العامة، مسار رسمه ما يعرف بـ"مسرح الشارع" في السودان، ليحتل حيزا واسعا في الساحة الإبداعية، بعد أن تشكل جمهور نوعي لصالحه.
ورغم مضي أكثر من قرن على بداية هذا النوع من العروض المسرحية في السودان، ما يزال مسرح الشارع يتصدر اهتمام الجمهور خاصة الأرياف لأنه استند على عناصر الفرجة السودانية من رقص وغناء وتمثيل وغيرها، وفق نقاد.
ففي الساحات والميادين والمدارس وأندية الأحياء السكنية، يتجمع الجمهور بشكل تلقائي بعد أن يتم إعلامه بطرق بدائية، ليس لحضور العروض المسرحية فحسب، بل للمشاركة فيها والتفاعل معها.
واستطاع مسرح الشارع، بحسب مهتمين، كسر كافة القيود التي تواجه المسرح الرسمي في السودان وتقديم أعمال متميزة ومناقشة قضايا اجتماعية وخدمية وسياسية، وترك بصمات كبيرة شكلت نقطة توقف في المشهد الفني والإبداعي في هذا البلد.
مسرح قضية
ويقول المخرج المسرحي، أسامة سالم، إن "مسرح الشارع" يتميز بكونه مسرح قضية مرتبطة بشكل جوهري بالجماهير، ونجح لأنه استند على عناصر الفرجة السودانية من رقص وغناء وتمثيل وأكسسوارات وأعراس وغيرها.
ويضيف سالم لموقع "سكاي نيوز عربية": "مسرح الشارع هو مستقبل الجمهور في ممارسة حقه الديمقراطي في الفرجة، فهو يتيح لهم متابعة العروض والتفاعل معها والمشاركة فيها في كثير من الأحيان، بخلاف خشبة المسرح المقيدة بفنون وأدبيات العروض المسرحية المعروفة".
وتابع: "يعتمد مسرح الشارع على وسائل إعلان بدائية غير مكلفة، فعندما نقرر تنفيذ عرض مسرحي في مكان ما نرسل شباباً متخصصين يحملون طارات ودربوكة ونقارة –آلات موسيقية بدائية- يطرقون عليها وهم يجوبون الأحياء السكنية المجاورة، بينما تردد فرق غنائية، أغان وقصائد ذات صلة بالقضية التي تتناولها المسرحية المراد تقديمها، عندها يسمع الجمهور ويتجمع بشكل تلقائي".
وشدد المخرج أسامة سالم على أن "مسرح الشارع استطاع الإفلات من كافة أشكال التضييق التي تحاول الدولة فرضها على الأعمال الدرامية والمسرحية، لأن الممثلين سيكونون في حماية الجمهور الذي يتحكم في العرض واستمراره".
ويعزز سالم حديثه، بأنهم "في إحدى المرات وأثناء عرض مسرحي في منقطة الكلاكلة جنوبي الخرطوم أمرتهم الشرطة بوقف العرض والمغادرة بحجة وجود حظر للتجوال، لكن الجمهور صاح وشكل حلقة دائرية حول الممثلين لحمايتهم والمطالبة باستمرار العرض، فكانت إرادته غالبة وتمكنا من إكمال الليلة المسرحية لنهايتها".
تمرد درامي
وفي ذات المنحى، يشير الكاتب المتخصص في شؤون الفن والمسرح، الزبير سعيد، إلى أن "مسرح الشارع" الذي عرفه السودان منذ عقود كان بمثابة تمرد من قبيلة الدراميين على كافة أشكال القيود على المسرح الرسمي وتخطيها لمخاطبة الجمهور بشكل مباشر لتحقيق الوعي الجماعي.
ويقول الزبير لموقع "سكاي نيوز عربية" إن "المسرح كوسيلة لتحقيق الوعي الجماعي تعرض إلى حرب مقصودة في السودان خلال حقب زمنية عديدة من السلطات الحاكمة التي كانت تخشى في أن يشكل وعي الجماهير بقضاياه الحيوية، فكان مسرح الشارع بمثابة متنفس وتمرد على تلك القيود".
وأضاف: "استطاع مسرح الشارع تحطيم كل القيود، ليست التي تفرضها وتراقبها السلطة فحسب، بل قيود تنظيم العروض داخل الخشبة من ضوابط الإخراج وغيرها، ليخرج إلى فضاءات الجمهور برسائل مباشرة أغلبها ارتجالية تتماشى مع القضية التي يناقشها الممثلون أمام حشود الناس في فضاء مفتوح".
وتابع سعيد: "يحتاج مسرح الشارع إلى ممثلين بقدرات عالية فهو قائم على الارتجال في معظم الأحيان، ارتجال يتخطى النصوص إلى المشاهد والموسيقى والأغنيات المصاحبة للعرض، فهذه الميزات شكلت سر نجاحه وجعلته يصمد ويحافظ على جمهوره كل هذه السنين".
بدوره، يقول الممثل السوداني قديرميرغني، لموقع "سكاي نيوز عربية" إن مسرح الشارع قائم على التفاعل، ويعتبر الجمهور مشاركا أساسيا في العروض فهو الذي يطرح القضية والحلول وتنفيذها، وقد حقق نجاحات كبيرة في علاج كثير من المشكلات الاجتماعية والخدمية وحتى السياسية.
ميرغني يشير إلى ضرورة أن يكون الممثل في مسرح الشارع مختلفا ويمتلك كل أدوات المسرح وذا تركيز وتصرف عالي جداً، فقد تصادفه مواقف أثناء العرض بحاجة إلى تصرف وارتجال وإلا سيفشل العرض المسرحي.
وقال: "كنا نراعي خصوصية جمهور المنطقة التي نريد أن نقدم فيها عروضا مسرحية تفاعلية، فنكون حريصين على ارتداء الزي المحلي للسكان والتحدث بلهجاتهم واللغة التي يفهمونها وأيضاً ترديد الأغاني المحلية للجمهور المعني، فجميعها وسائل تساعد على نجاح العرض وإيصال الرسالة".
عمق تاريخي
المخرج المسرحي والسينمائي زهير عبدالكريم، يقول لموقع "سكاي نيوز عربية" إن لمسرح الشارع تاريخا ضاربا في القدم وكانت بداياته الفعلية – حسب إجماع عدد من المؤرخين – مطلع القرن التاسع عشر وجرى تقديم أول عرض مسرحي بواسطة رائد تعليم البنات بابكر بدري، أمام ساحة منزلية لصالح إنشاء مدرسة للبنات.
ويضيف عبدالكريم: "منذ ذلك الحين تجلت فضاءات مسرح الشارع وتنوعت عروضها وقد ساعد في ذلك عدم وجود مسارح مؤسسة وقتها، ورغم طول عهده إلا أنه ما يزال يحظى بجماهيرية عالية فهو نمط مثالي لتوصيل رسالة المسرح والتحرر من كل القيود التي تجابه العمل الإبداعي".
وتابع: "استطاع مسرح الشارع الصمود أمام كافة التحولات والاستمرار بذات البريق رغم تأسيس عدد كبير من المسارح، فغالبية الممثلين يفضلون مسرح الشارع والفضاءات غير التقليدية".
ويشير زهير إلى أن من أفضل التجارب التي رسخت لهذا النوع هو ما كان يقدمه الفنان المسرحي عزالدين كوجاك في مدينة ود مدني والذي تفانى وأخلص لمسرح الشارع من خلال عربته البدائية "كارو"، وهذا لا يقلل من التجارب اللاحقة".