بتير، هي قرية فلسطينية تقع جنوب غربي القدس، وهي تحمل اسما كنعاني الأصل يعني "بيت الطير"، كيف لا والطيور بأشكالها وألوانها المختلفة لا تفارق سماء القرية ومنها "العقاب والنسور وعصفور الشمس الفلسطيني"، التي حلقت في جمالياتها عدسة سكاي نيوز عربية.
يكاد يكون اللون الأخضر لباسها طوال العام لكثرة المزروعات الشتوية والصيفية، فهي دائمة الخضرة وقد يجد الزائر لها حيرة في وصفها لكثر أنواع الخضار والفواكه والأشجار والنباتات المزروعة فيها وربما من أشهر معالمها "الباذنجان والبتيري والزعتر والنعنع، والبقدونس".
أرض من خضرة
تقع قرية بتير بين جبلين شاهقين يتوسطهما واد سحيق يحضن العديد من بساتين تتدرج بشكل منتظم حتى نهاية الوادي، وهذا ما يميز القرية عن ما يجاورها من القرى، ففطنة سكانها الذين بنوها قبل قرابة 5 آلاف سنة تبرز في بناء حواجز حجرية -أو"سناسل" باللغة العامية- بمعدل (5 إلى 8 أمتار).
وقد تم بناء حاجز من رأس الجبل حتى نهاية الوادي، وذلك للحفاظ على الأتربة من الإنجراف نتيجة الأمطار أو التغيرات والعوامل الزمنية والجغرافية، ويمكن لناظر أن يميز بين مختلف البساتين من خلال شدة وخضرة المزروعات في كل بستان.
فحين تقترب من أراضيها تستطيع أن تسمع صوت تدفق الماء في كل أرجاء الوادي فتتفاجأ بأن ذلك الماء ينساب بكل يُسر من تحت قدميك دون أن تعرف اتجاهه، فالوادي مرتبط بشبكة مياه رومانية معقدة تمتد من أول شجرة في الجبل في رأس الجبل حتى آخر بذرة في قاع الوادي دون أن تضيع قطرة ماء، وذلك راجع لوجود أكثر من 7 ينابيع مياه تنثر خيرها طوال العام دون انقطاع لتروي عطش الأرض والإنسان.
قطار الحجاز
وما يزيد المنظر جمالا وبهجة هنا، وجود عدة مواقع أثرية في القرية تعود لآلاف السنين منها ما هو كنعاني وروماني وبيزنطي، ومن أبرزها آثار قلعة كنعانية وحمام روماني والبئر الذي شرب منه سيدنا إبراهيم عليه السلام في طريقه إلى مدينة الخليل والمسجد العمري الذي صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب حين فتح القدس.
وعلاوة على ذلك كله، تنشطر أراضي "بتير" إلى قسمين وذلك لوجود سكة قطار قام العثمانيون ببنائها في أوائل القرن الماضي ضمن مشروع "قطار الحجاز"، لكن بعد خروج العثمانيين من فلسطين قام البريطانيون باستكمال المشروع فظل يربط القدس بالساحل الفلسطيني أو ما يعرف حاليا بـ"تل أبيب".
ورغم التطور العمراني والتمدد السكاني الذي تجاوز 3 آلاف نسمة، سكن أراضي القرية التي تقدر بـ 8 آلاف دونم، إلا أن ذلك لم يغير شيئا في الإرث الطبيعي والحضاري والثقافي والتاريخي للقرية، لذلك استحقت أن تنال جائز منظمة "اليونسكو" السنوية للحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي عام 2011 من بين أكثر من 40 قرية عالمية.
غير أن نقطة التحول في القرية بدأت حين وقعت أراضي القرية على حدود خط التقسيم بين دولتي "العرب واليهود" حسب قرار التقسيم الصادر عن مجلس الأمن عام 1947، لكن سلطات الاحتلال من خلال سيطرتها على سكة القطار التي تمر من أراضي القرية، وقعت اتفاقية سميت بـ"رودس" سنة 1949بين سلطات الاحتلال وبين الحكومة الأردنية وأهالي القرية.
وتم الاتفاق بموجبها على أن "يحق لأهالي بتير المحافظة على ملكية أراضيهم داخل المنطقة اليهودية مقابل أن يحفظوا سلامة القطار الذي يمر من أراضيهم" حسب نص الاتفاقية.
الأرض المنهوبة
وقد انقسمت أراضي القرية بناء على ذلك إلى جزأين، الأول تحت السيادة "الإسرائيلية"، والآخر تحت السيادة الأردنية، وبعدها انتقلت إلى السيادة الفلسطينية، لكن لم يتغير أي بند من بنود اتفاقية "رودس" حتى هذه اللحظة.
لذلك ظل الأهالي في اتصال مباشر مع أراضيهم رغم مضيقات الاحتلال المستمرة لهم، وهذا ما يؤكده التاريخ وأغلب أهالي "بتير" في المقابل لم يتعرض القطار إلى أي أذى طيلة 63 عاما.
ويبدو أن اتصال وارتباط أهالي "بتير" بأراضيهم خلف سكة القطار بشكل يومي وسلمي لم يرق لسلطات الاحتلال التي قررت في السنوات الأخيرة بناء الجدار الفاصل حول سكة القطار من الجهة الفلسطينية بحجة "حماية القطار ومن يركبه من هجمات فدائية قد يتعرض لها القطار من قبل الفلسطينيين".
وفي هذا الإطار يقول عضو مجلس قروي بتير، عليان الشامل "هناك حقيقة واحدة وراء بناء الجدار هنا، وهي استمرار لمسلسل مصادر وسرقة الأرض الفلسطينية بحجج وذرائع واهية".
ويضيف "صحيح أن سلطات الاحتلال ستمنح المزارعين تصاريح بدخول أراضيهم من خلال بوابة إلكترونية بموجب إذن دخول لهم، لكن ذلك لن يستمر هذا وقت طويل وستسحب التصاريح شيئا فشيئا ثم سيتضائل اتصال المزارع الفلسطيني بأرضه لأنه البوابة لها وقت محدد وبذلك ستموت المزروعات وسيضيع (3 آلاف دونم) أي أكثر من ثلثي أراضي بتير خلف الجدار، ففي عام 1948 أجبرنا على تحويل وجهتنا من القدس إلى بيت لحم واليوم يريدون عزلنا عن أراضينا".
ثم واصل "خلال الأعوام الماضية قتل الاحتلال 12 شخصا، واعتقل واعتدى على العشرات من أهل بتير، لكن لم يكن من جانب الأهالي أي خرق أو اعتداء لبنود اتفاقية رودس".
والغريب أن المحكمة الإسرائيلية جمّدت قرار بناء الجدار في الوقت الحالي بالقرية بعد عدة محاكم رفعها أهالي القرية ضد قرار البناء وضغوطات مارستها منظمات أجنبية لوقف القرار، لكن المحكمة الإسرائيلية طلبت من الجيش الإسرائيلي تغيير مسار الجدار.
ويعتبر أهالي بتير، مدرسة "حسن مصطفى" الأساسية آخر قلاع المقاومة والصمود في وجه الاحتلال، لأنها تقع مباشرة بجانب سكة القطار، وهي بذلك تحافظ وتذكر الأهالي باتصالهم الروحي والديني والاجتماعي مع مدينة القدس باعتبارها تقع ضمن حدود بلدية القدس المحتلة، وطلاب القرية يأتون إليها لأنها المدرسة الأساسية الوحيدة في القرية على غرار مدرستي الذكور والإناث الثانويتين.
كما يحذر حسن محمد، وهو مهندس مدني في متحف بتير الأثري ومرشد سياحي وتوعوي من أن "بناء الجدار سيدمر شبكة الري الرومانية الأثرية لأنه سيأتي على بعض الأراضي المزروعة ويدمرها وسيقطع المياه عن المزروعات التي لن تجد طريقا لها إلا الموت وبالتالي سيقفد المزارع الفلسطيني مصدر دخله الرئيسي".
وسيحدث الجدار تغير جذري وعميق في التكون الجغرافي للمنطقة خاصة، وأنه سيمتد لـ 3 كيلومتر داخل أراضي القرية، ونتيجة لذلك سيتم تدمير الإرث الحضاري والإنساني والتاريخي والثقافي والطبيعي للقرية الذي يعود لآلاف السنين كما سيؤثر على الطبيعة الجغرافية للمنطقة هذا من جهة.
من ناحية آخرى، سيكون للجدار تداعيات نفسية واجتماعية خطيرة على أبناء القرية إذا ما علمنا أن ارتفاع الجدار 8 أمتار بذلك ستختفي كل أشكال جمال وروعة الطبيعة الخلابة التي ذكرت في البداية.
وفي هذا الصدد، يقول المزارع محمد عبدالفتاح القيسي الذي يعتني بأرضه بشكل يومي "بتير هي جنة مصغرة على الأرض إذا تم بناء الجدار عليها سنصاب بكارثة بيئية ونفسية واجتماعية واقتصادية لا يحمد عقباها".
ويضيف المزارع القيسي أنه لا يستطيع توسيع بيته الصغير خوفا من أن تأتي سلطات الاحتلال وتهدمه، خاصة وأن بيته يقع ضمن حدود عام 1948، قائلا"أردت أن أوسع بيتي الصغير فجاءني جنود الاحتلال وقالوا لي إنهم إذا لم أتوقف عن البناء سيقومون بهدم بيتي وتهجيري من المنطقة".
ويخشى الكثيرون أن تكون تلك سياسة إسرائيلية لتهجير أهالي القرية من أراضيهم، خاصة واأن بعض اليبابيع بدأت بالنضوب أو خفت درجة تدفقها وهي الآن 7 ينابيع بعد أن كانت ضعف هذا الرقم في السابق.
كما أن القرية تفتقر إلى شبكة مياه صرف صحي، فجميع الأهالي يقومون بتصريف المياه العادمة في جوف الأرض ما يشكل خطر تلوث بيئي على مياه الينابيع والمزروعات، ناهيك عن أن القرية تفقتر أيضا إلى مرافق عامة مثل المستشفيات.
وفي المقابل تنتظر قرية بتير أن يتم إدراجها على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو في منتصف العام الجاري بشكل طارئ، بعد أن تم تقديم ملف ضم القرية أواخر شهر يناير إلى المنظمة المذكورة، وبذلك القرار يتطلع أهالي بتير إلى أن يكون ضم القرية إلى لائحة التراث العالمي حجر عثرة أمام المخططات الاستيطانية والتهودية لأراضيها.
وكانت وزيرة السياحة والآثار الفلسطينية رولا معايعة، قد أعربت في وقت سابق عن أملها في أن تحصل قرية بتير على الموافقة بإدراجها على لائحة التراث العالمي والبت في طلبها خلال الأشهر المقبلة لقولها "ملف بتير ملف طارئ وعاجل نظرا لما تتعرض له القرية من محاولات إسرائيلية لبناء الجدار الفاصل على أراضي القرية".
وبذلك يمكن القول إن قرية بتير أمام مفترق طرق، إما أن تنظم إلى لائحة التراث العالمي وبذلك تحافظ على مكانتها التاريخية والثقافية والإنسانية، وإما أن تكون على أبواب تدمير وكارثة بيئية وإنسانية وثقافية إذا ما أصرت الحكومة الإسرائيلية على بناء الجدار الفاصل على أراضيها.