أتاحت منصات التواصل الاجتماعي لمستخدميها مساحات شاسعة للتعبير الحر في شتى المجالات، حتى تحول رواد تلك المنصات إلى قوة افتراضية تؤثر في توجهات الرأي العام، غير أنها فتحت الباب أمام ظهور نوع جديد من العنف يعرف بالعنف الرقمي.
ومنحت مساحات التعبير الحر الافتراضية مشاركة أكثر للمواطن في القضايا العامة، غير أنها تركت المجال لظهور نوع جديد من العنف يعرف بالعنف الرقمي، حيث تحولت كثير من التدوينات والتعليقات إلى محاكمات افتراضية وامتلأت المنصات بعبارات التحريض فضلا عن خطابات الكراهية.
وأكد خبراء في الاتصال الرقمي أنه لم يعد من الممكن تجاهل العنف المسلط داخل الفضاء الإلكتروني بعد تفاقمه، خاصة وأنه يتسبب في الإساءة وانتهاك الخصوصية لفئات كثيرة ومنها النساء اللواتي يعتبرن الحلقة الأضعف في مواجهة العنف الإلكتروني.
وقال خبير التواصل والتسويق الرقمي، عربي السوسي، في تصريحات لموقع "سكاي نيوز عربية": "إن ظاهرة العنف الرقمي "ليست جديدة في تونس ولكنها في ارتفاع متواصل، وتتنوع بين الحملات المبرمجة مسبقا لاستهداف شخصيات بعينها وبين حملات الإثارة التي تظهر فجأة، وكلاهما يعتمدان على أخبار وفيديوهات زائفة أو موجهة قصد إثارة الأحكام المسبقة لدى فئات كثيرة من الشعب مما يخلق ردود فعل عنيفة".
وأضاف السوسي أن "حملات العنف الرقمي التي تشهدها البلاد في الآونة الأخيرة عرّضت حياة بعض الشخصيات العامة للخطر، وأثرت على مستقبل فنانين ومشاهير ومنهم الممثل لمين النهدي الذي تسببت التعليقات العنيفة ضده في منصة فيسبوك إلى وقف عروضه المسرحية في المهرجانات الصيفية بعد مسيرة طويلة، وذلك عندما وضعه فيديو على الفيسبوك في مرمى العنف الإلكتروني".
واعتبر الخبير في الاتصال الرقمي أن من أسباب انتشار ظاهرة العنف الرقمي السلوك الانفعالي لدى رواد المنصات والحكم على ظاهر الأشياء وغياب العقلانية في التعاطي مع المحتوى الرقمي الذي يحتمل المغالطة والتزييف.
وأكد السوسي أن العنف الرقمي أصبح يهدد الوعي الجمعي والقيم ويسمح بإهانة المبدع وهتك الأعراض، كما أن النساء لا تشعرن بالأمان في دخول الفضاء الرقمي، داعيا إلى ردع مرتكبيه عبر تفعيل القوانين الموجودة والتي تجرم السب وانتهاك الحريات والتشهير بالناس، وعبر تدريب الجماهير على وسائل الحماية لبياناتهم الشخصية عند استعمال وسائل التواصل الحديثة.
ومن جانبه، علّق أستاذ علم الاجتماع عبد الستار السحباني بأن الطفرة في حالات العنف الرقمي كانت متوقعة لأن التشريعات غير دقيقة في تجريمه، فالدولة تضع خطوطا حمراء في المسّ برموز السلطة فقط وتتغافل عن نفس الجرائم مع عموم المواطنين.
وأوضح السحباني في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن العنف الرقمي "مرجح للارتفاع في ظل غياب خطة لدراسة وفهم الظاهرة التي استفاد منها السياسي والإعلامي، ما شجع الناس على الانخراط في منظومة العنف الرقمي وكأنه صوت من لا صوت له حتى وإن تجاوز خطوط الحرية".
وأكدت الخبيرة في علم النفس الكلينيكي، سندس قربوج، في حديث لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن أثار العنف الرقمي خطيرة على الصحة الجسدية والنفسية، وأعراضها الصداع والآلام واضطرابات السلوك الغذائي، أما على المستوى النفسي فتخلّف القلق والاكتئاب.
وبيّنت قربوج أن العنف الرقمي ليس مجرد عملية ثنائية بين المعتدي والضحية، ولكن يشارك فيه أيضا المنخرطون بالتعليقات والنشر.
وترى الخبيرة النفسية الحلول لتجاوز العنف الرقمي، "في الجانب الردعي وتشديد العقوبات على مرتكبيه، وفي الجانب التوعوي بالتوجه للمدارس وتجريم حملات الكره والعنف، وفي تأمين السلامة الإلكترونية للموجودين في الفضاء الرقمي الذي أصبح بمكانة فضاء عام موازي".
وشددت على أنه: "على أصحاب المنصات وضع قواعد أكثر أمانا والتعهد بضحايا العنف الرقمي نفسيا وقانونيا وصحيا خاصة النساء اللواتي يعتبرن ضحية مثلى للعنف الرقمي".
وتعتبر النساء في تونس الأكثر عرضة للعنف الرقمي حيث كشفت دراسة استطلاعية أعدّها مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة عن العنف الرقمي في فيسبوك، أن "89 بالمئة من النساء المستطلعات تعرّضن للعنف بجميع أنواعه في الفضاء الرقمي، كما أوضحت النتائج أن 71 بالمئة من مرتكبي العنف هم من الرجال وأن 60 بالمئة من النساء اللواتي يستخدمن فيسبوك لا يشعرن بالأمان في الفضاء الرقمي".
وتتعرض النساء في الفضاء الرقمي بحسب الدراسة إلى التعليقات المهينة والمسيئة للمرأة وحتى الخادشة للحياء فضلا عن المضايقات الإلكترونية والتحرش والابتزاز الجنسي.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمات المجتمع المدني توثق بشكل دوري مئات الشهادات للنساء ضحايا العنف الرقمي من تعليقات مهينة وتهديدات صريحة وتشويه سمعة أو إرسال صور وفيديوهات خادشة للحياء، كما تعمل على تدريب النساء للتصدي للعنف الرقمي عبر الدفاع عن حقهن في الحضور بالحياة العامة والتعبير عن أرائهن بكل حرية.
وتعتبر هيئة الأمم المتحدة أن العنف الرقمي المسلط على النساء والفتيات أصبح من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارا، ويشمل الاعتداء الجسدي والجنسي والنفسي والاقتصادي، وله آثار خطيرة على المجتمعات والاقتصاديات في جميع أنحاء العالم وزادت حدته مع أزمة كورونا.