قبل أن يرحل عن عالمنا في الساعات الأخيرة من عام 2021، عاش وزير الثقافة المصرية الأسبق، جابر عصفور، حياة حافلة، خاض خلالها معارك فكرية عدة، إلى جانب إسهاماته الرسمية في المناصب المختلفة التي تولاها، حيث كان رئيس المجلس القومي للترجمة، وأمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة، وتولى وزارة الثقافة مرتين.
وبرغم أن آراء عصفور أثارت من الجدل الكثير، كونها وقعت في دائرة الاستقطاب بين الحداثة والمحافظة، فإن الرجل حظي بتقدير واسع من تلامذته وقرائه، حتى أن البعض وصفه بالحفيد الشرعي لطه حسين، كونه تتلمذ على يد الدكتورة سهير القلماوى تلميذة الدكتور طه حسين.
وعلى الطرف الآخر وجه البعض سهام النقد لبعض منجزات عصفور، ومنهم الناقد الراحل عبد العزيز حمودة أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، وفي هذه السطور يلقي موقع "سكاي نيوز عربية" الضوء على مسيرة الرجل الطويلة.
3 ملامح
جابر عصفور هو أحد أبناء مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية شمالي مصر، حيث ولد بها عام 1944، وتخرج في كلية الآداب عام 1965، وفي العام التالي لتخرجه عُيّن معيدًا بكلية الآداب، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه ليبدأ مسيرة أكاديمية مميزة، تُوجت بأن أصبح أستاذًا زائرًا في كبرى جامعات العالم مثل: هارفارد، ويسكونسن-ماديسون.
وعن مسيرة عصفور تحدث لموقع سكاي نيوز عربية، حلمي النمنم، وزير الثقافة المصري الأسبق، إذ يقول إن مسيرة عصفور تتلخص في 3 ملامح أساسية، الملمح الأول: الأستاذ الجامعي، والثاني: المثقف العام، أمَّا الثالث هو ملمح المسؤول في المؤسسات الثقافية.
ويشرح النمنم: "في الملمح الأول، نرى أن الدكتور جابر عصفور ترك لنا مجموعة كبيرة من التلاميذ لهم قدرات متميزة، وتحفل بهم الجامعات المصرية والعربية الآن، مثل: حسين حمودة، وطارق نعمان وغيرهما العشرات"، لافتًا إلى أنّ تلاميذه لم يكونوا فقط في قسم اللغة العربية الذي ترأسه، بل انتشروا إلى جميع أقسام الدراسات الإنسانية.
ويتابع: "في هذا الإطار قدم عصفور مجموعة من الكتب الأكاديمية المتميزة، سواء في التراث العربي النقدي، أو عن الدكتور طه حسين في رسالته للدكتوراه".
يُذكر هنا أن من أهم مؤلفات عصفور: "محنة التنوير" و"أنوار العقل" و"زمن الرواية" و"غواية التراث" و"النقد الأدبي والهوية الثقافية" و"نقد ثقافة التخلف" و"تحديات الناقد المعاصر" و"زمن جميل مضى" و"في محبة الشعر" و"هوامش على دفتر التنوير".
وعن دور جابر عصفور كمثقف يوضح النمنم لموقع سكاي نيوز عربية أن كتابات عصفور في كبرى المجلات والصحف المصرية والعربية لم تكن مجرد تعبئة أوراق، لكن كان يشتبك مع الواقع الثقافي، وخاض خلالها معارك ضارية مع قوى الظلام في المنطقة العربية.
ويستطرد: "جزء من فشل مشروع الإخوان في مصر والمنطقة العربية، يعود للموقف النقدي الذي اتخذه فريق من المثقفين ضد هذا التيار، وهذا الموقف الفكري الذي تبناه الدكتور جابر عصفور ورفاقه من المثقفين كان أسبق من حكومات بعض الدول العربية التي لم تواجه الإسلاميين".
أمَّا عن دور عصفور كمسؤول ثقافي يقول النمنم إن الفضل الأكبر لتأسيس المجلس القومي للترجمة يعود لجابر عصفور، "لولا جابر عصفور لما كان المركز القومي للترجمة، فعندما كان أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، قدّم بمبادرة شخصية منه المشروع القومي للترجمة، إلى أن تحول للمركز القومي للترجمة".
ويؤكد أن عصفور حول المجلس الأعلى للثقافة من مجرد مؤسسة لا تفعل شيء غير منح جوائز الدولة التقديرية التشجيعية إلى مؤسسة ثقافية بالمعنى الكامل للكلمة، واستقبل المجلس عدد من كبار مثقفي العالم، ومعظم مثقفي العرب".
انتقادات
من جانبه يقول الكاتب المصري أشرف راضي، إن جابر عصفور كان لديه اهتمام خاص بقضية التنوير، انعكست على كتاباته، وحاول من ترجمات المشروع القومي للترجمة في مرحلته الأولى أن ينقل للعربية معظم الكتابات في هذا الإطار".
ويضيف راضي لموقع سكاي نيوز عربية: "في مجال النقد الأدبي، كان عصفور أحد الذين أرسوا قواعد المدرسة البنيوية في دراسات الأدب والنقد الأدبي" لافتًا إلى أن هذا الأمر كان موضع نقد كبير من مدارس أخرى، وخاصة من قبل الدكتور عبد العزيز حمودة الذي ألّف في هذا الشأن كتابي "المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك"، و"المرايا المقعرة".
ويرى الكاتب المصري أن مشروع المركز القومي للترجمة الذي تبنّاه الدكتور جابر عصفور قدّم للعربية كتابات حداثية من الإنتاج الأوروبي في مجالات متباينة وبلغات مختلفة من خلال عدد من المترجمين البارعين، وأسهم المشروع في إنجاز عدد كبير من الترجمات الراقية والمحترمة والمتنوعة، لافتًا إلى أن عصفور نجح في ربط برامج الترجمة ببقية أنشطة المجلس الأعلى للثقافة.
لكن ثمة انتقاد يشير إليه راضي، وجهه البعض لإصدارات المجلس القومي للترجمة، كونها قدمت إسهامات كبيرة في مجال الدراسات الإنسانية، بينما لم تحظَ العلوم الأخرى بالاهتمام المطلوب، كما أن هناك بعض الترجمات أثارت جدلًا، مثل كتاب "أثينا السوداء" الذي يقول إن أصول الحضارات الأوروبية تعود إلى مصر، وهو الأمر الذي أثار كثير من الجدل، وكان المفكر الكبير مراد وهبة في مقدمة المنتقدين آنذاك.
وعن الانتقادات التي توجه لعصفور والتي تقول إنه "لم ينجح في تأسيس مدرسة نقدية كبيرة ومؤثرة"، يقول النمنم الذي ظل على رأس وزارة الثقافة لنحو عامين: "هذه ليست مسؤولية عصفور، فلا تنتظر من أحد تأسيس نظرية نقدية كبيرة، في مجتمع ضعيف ودولة ضعيفة".
ويستكمل: "الأمريكان أو الروس استطاعوا تأسيس نظريات مؤثرة في العالم لأن لديهم قوة كبيرة ومؤثرة، فالناقد لا يعمل بمعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه".
ويضرب مثلًا فيقول: "إن الجاحظ وأبي حيان التوحيدي حظيا بشهرة وساعة لأنهما كانا يعيشان في عصر الدولة العباسية، التي كانت قوية ومسموعة الكلمة على مستوى العالم، وفي المقابل في الدولة المملوكية كان هناك مثقفون ليسوا أقل شأنًا من الجاحظ والتوحيدي، لكن بسبب ضعف الممالك لم ينالوا نفس الشهرة".