عندما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية (لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه) كان هدفه العميق ليس هذا المنطوق المباشر، ولكن توحيد القوانين التي تحكم السماء بتلك التي تحكم الأرض.
هدف كان ولا يزال بعيد المنال، وكأنه المستحيل، بينما نجد "لعبة نيوتن"، المسلسل الرمضاني يسعي إلى الوصول للمستحيل.
أحدث مسلسل "لعبة نيوتن" فارقاً في التلقي، ومنذ الطلة الأولى هناك حالة مختلفة لها خصوصية تعلن عن نفسها، تبدأ من "التتر" الذي يعيد مجدداً الاعتبار للمخرج، فهو يتصدر الأسماء، وهكذا جاء اسم تامر محسن، ثم مني زكي سابقة النجوم.
نقرأ بعدها أسماء محمد فراج ومحمد ممدوح وسيد رجب وعائشة بن أحمد، ثم نقرأ حرف الجر "في" يليه اسم المسلسل "لعبة نيوتن"، والذي يعني هذه المرة أن الجميع مشاركين في العمل الفني، بداية من الكاتب والمخرج، بينما في السنوات الأخيرة، وجدنا أن هذا الحرف يأتي فقط بعد اسم النجم أو النجمة الأولى وكأنه يشير إلى سيطرة مفرطة للنجم، فهو الذي يتحمل بمفرده المسؤولية أمام الجمهور.
ربما يراها البعض مجرد ملاحظة خارج النص، لا تعبر من قريب أو بعيد عما نراه على الشاشة، في الكتابة والإخراج والتصوير والمونتاج وغيرها، التي في النهاية تشير إلى مناطق القوة أو الضعف في الشريط الذي نشاهده، بينما في الحقيقة أسلوب كتابة "التترات" يؤكد ما هو أهم: إلى من تنتمي "جينات" العمل الفني، وبعد أن صار في السنوات العشر الأخيرة مع زيادة عدد الفضائيات اسم النجم الأول هو الذي يضمن التسويق للمسلسل، تراجع كثيراً عن القيادة اسم المخرج، وشاهدنا الكثير من سطوة النجوم على مقدرات العمل الفني، وبالتالي التراجع في كل شيء.
السيناريو كبناء قائم على التقاطع، قبل أن تبدأ الحلقة ترى مشهداً يوحي بالعديد من الأسئلة المحتملة، ويفتح أكثر من قوس، ثم مع تتابع المشاهد تصل إلينا بعض الإجابات ونغلق عددا من الأقواس، وتبقى الأخرى مفتوحة حتى الحلقات التالية.
دائماً هناك عمق تاريخي لكل مشهد نعيشه مع منى زكي في نيويورك، حيث تعود للزمن الماضي للقاهرة في نفس اللحظة لتعيد قراءته بناء على المعلومة الجديدة التي قدمها السيناريو.
مني تعبر عن المرأة الضعيفة برغم أنها تحمل ماجستير، إلا أنها لا تملك أسلحة في يدها تؤهلها للانتصار في معركة الحياة، أو هكذا تتخيل ونتخيل أيضاً كمشاهدين.
التجربة العملية أنضجتها، واكتشفت أنها تملك الكثير. الإنسان عند المواجهة الحاسمة يفاجأ بأن لديه قوة كامنة لم يكن يدري بها أو عنها شيئاً.
المسلسل أسهم في رسم ملامحه وتفاصيله ورشة عمل وأيضاً كاتبة للسيناريو والحوار مها الوزير.
الأحداث تتحرك في كل مشهد وفق ميزان من ذهب، لا يتحمل إيحاء غير مقصود أو همسة عابرة، أو نظرة بلا هدف، وهكذا توافقت الدراما مع كل أبعاد ما هو مرئي ومسموع.
تسكين الممثلين أهم ما يتميز به المخرج؛ منى زكي لا بديل لها في هذا الدور، وكأنه كتب من أجلها، فهي بالنظرة واللمحة وحتى التلعثم، في اختيار المرادف بالإنجليزية، بينما حصيلتها اللغوية محدودة.
منى عايشت الشخصية التي تحمل ضعفاً نفسياً، فهي بحاجة إلى من تتكئ عليهم، خرجت من وصاية الأم إلى وصاية الزوج محمد ممدوح، ونضجت فبدأت في مقاومة وصاية محمد فراج.
وفي مشهد المطار مع الحلقات الأولي، لحظة وصولها إلى نيويورك في بداية الرحلة كانت تنتظر التعليمات من زوجها محمد ممدوح.
التجربة أثارت بداخلها القوى الكامنة للدفاع المشروع عن النفس، وكأنها في كابوس، كل الأحداث تقف ضدها، إلا أنها تتشبث بالحياة وبرغبتها في تحقيق الهدف من الرحلة، وإنجاب طفل يحمل الجنسية.
وكلما زادت أيام الغربة تقدمت خطوة أبعد، حتى في نطقها للإنجليزية. مشاهد دفاعها عن حقها في رؤية طفلها داخل الحضانة قدمتها بإبداع.
محمد ممدوح كتلة من المواهب، طريقة نطقه للحروف والتي كانت تشكل عند البعض صعوبة في التلقي ونقطة ضعف في أدائه كممثل، باتت جزءاً لا غنى عنه في التكوين الدرامي للشخصية.
سيد رجب يلعب في مساحة درامية ناعمة، إنسان يرتكب كل الأخطاء من نصب وإتجار في المخدرات ولكن برضاء وقناعة وقبول، فهو تصالح تماماً مع نفسه. عيناه قبل نبرة صوته تمنحنا هذا الإحساس.
أقنعتني لأول مرة عائشة بن أحمد بامتلاكها موهبة حقيقية. كنت أراها من قبل وجهاً جميلاً فقط لا غير، ترشح للعمل الفني لأن المطلوب امرأة تتمتع بجاذبية، إلا أنها هذه المرة أثبتت قدرتها التعبيرية والأدائية. حضورها كان مؤثراً وملفتاً.
المسلسل يتناول تفاصيل تبدو غير مألوفة على الشاشة الصغيرة، مثل العلاقات الجنسية التي أقامتها عائشة بن أحمد في الغربة. تمكن المخرج من أن يبوح بكل شيء ولا يسبب خدشاً للحياء.
محمد فراج عيناه تنطقان بالحوار قبل لسانه، ضعفه الشخصي أمام منى زكي، صراعه الداخلي، وعمله الذي من الواضح أنه يترقب الضعفاء والمحتاجين من المسلمين ليضعهم تحت سطوته. أيضاً الشاب المصري الجذور الذي أدي دور (زي) آدم الشرقاوي، وصل لذروة التلقائية.
تلعب موسيقي تامر كروان دوراً محورياً في زيادة مساحات الغموض والترقب. المونتاج بطل لأن التتابع يبدو للوهلة الأولى متقاطعاً، ويأتي المونتاج لعماد ماهر ووائل فرج ونسرين طلعت وإنجي فتحي ليمنح التقاطع منطق و(هارمونية). تصوير محمود يوسف ديكور هند حيدر أضاف الكثير.
هل يتم توحيد القوانين التي تحكم السماء بتلك التي تحكم الأرض، كما أراد صُناع "لعبة نيوتن"؟ لا نزال في منتصف الطريق، إلا أن المسلسل يُشير إلى أنهم مدركون بالضبط، كيف يفتحون الأقواس ومتى وكيف أيضاً تغلق الأقواس.