في الأفلام الأجنبية، خصوصا الأميركية منها، يفقد المتفرج الكثير في حال أضاع على نفسه فرصة متابعة "الأڤان تتر"، وهو مشهد البداية، الذي يتضمن في العادة معلومة على درجة من الأهمية يمكن أن تُغير مسار الأحداث، أو تقود إلى فهم الغامض منها، وربما يُنظر إليها باعتبارها "المفتاح" الذي يُعين على قراءة القطعة الفنية واستيعابها.
ينطبق هذا بالضبط على ما حدث في الحلقة الأولى من مسلسل "نسل الأغراب"، تأليف وإخراج محمد سامي؛ ففي الحوار الطويل الذي دار بين الضابط علي (دياب) رئيس المباحث بإحدى قرى الصعيد، ومساعده أحمد (أحمد ماجد)، يكمن مفتاح المسلسل أو خارطة الطريق التي تُبرر أحداثه ومعاركه التي لا تنتهي؛ فهناك "أغراب" اسما على مسمى، غادروا الجبل وسعوا إلى الاندماج مع كبار القرية وأهلها.
وجريا على عادة "الصعايدة" رفضوا التواصل معهم، بوصفهم "مطاريد"، كما يُطلق عليهم في الجنوب، فما كان من الأغراب، من أفراد عائلة "الغريب"، سوى أن فرضوا إرادتهم بالقوة على القرية، وأمعنوا في قتل كبارها ثم استولوا عليها.
كما زرعوا وحصدوا وعمروا وخربوا وتناحروا وانقسموا وقسموا القرية شرقا؛ حيث سرايا والد "غفران الغريب"، وغربا حيث سرايا والد "عساف الغريب"، بينما اختار والد "علي الغريب" -المسالم الذي كان يعد النبتة الطيبة في تلك العائلة الفاسدة- لنفسه منصب "العمدة" وسكن البيت المخصص للمنصب.
"مونولوج" طويل لا أظن أن أحدا من جمهور الحلقة الأولى كان بمقدوره تحمله أو استيعابه؛ خصوصا أنه دار بالكامل، ومن دون "فلاش باك" واحد، أو رؤية بصرية تُذهب الشعور بالملل، في مكان واحد هو غرفة رئيس المباحث، الذي أنهى "الحدوتة" التي دارت منذ 20 سنة.
ووصف ما انتهت إليه الأوضاع في القرية عقب معركة، هي في الحقيقة "حرب أهلية" اندلعت بين أبناء العمومة الذين قتلتهم الغيرة والكراهية والصراع على السلطة واحتكارها وتأكيد كل واحد منهم للكافة أنه صاحب اليد العليا والكلمة المسموعة، انتهت إلى مذبحة دموية قتل فيها عساف الغريب (أحمد السقا) عمه والد "غفران"، وخطف أمه، وقطع دابر العائلة.
فما كان من غفران (أمير كرارة) سوى أن رد بقتل عمه، والد "عساف"، وقطع نسل عائلته، باستثناء شقيقه دميري (محمد جمعة)، وشقيقته عزيزة (منة فضالي).
ولأن غفران عُرف بدهائه، استدعى شهوده وأدلته على انتفاء صلته بالمذبحة، وبرهن على تواجده في المستشفى في نفس التوقيت، بينما أدين عساف، الذي اشتهر بأنه "غشيم"، ودائم التلويح بالقوة، ويتمتع بكراهية الأهالي، وزُج به في السجن بعد الحكم عليه بالإعدام وتخفيفه في جلسات النقض إلى 20 سنة.
"حدوتة" (قصة) كان يمكن أن تتحول إلى "أسطورة" أو "ملحمة"، تبدأ بخروج عساف من السجن، وما يُثيره من رعب في نفوس من خانوه، وتهديده بأنه سيُحيل الدنيا جحيما مع نظرته الفلسفية التي رأى خلالها أن جفاف أراضي عائلته في الشرق وخراب السرايا التي يملكها، مقارنة بازدهار أراضي عائلة غريمه في الغرب ورفاهية السرايا، دليلا على انقلاب الأوضاع واختلال موازين القوة، بل يُحيل المسلسل إلى قطعة رمزية تتعدد قراءاتها واحتمالات ما ترمي إليه في طرحها.
لكن يأبى الكاتب والمخرج سامي أن يصنع منها "ملحمة"، وبدلا من أن يجعلها "أسطورة" يجعلها أقرب إلى "التخريفة"، بمبالغاته الكثيرة في الشكل والمضمون؛ فاختار للسقا "لازمة" مُنفرة، ينظف فيها أسنانه بلسانه بينما استبدل بأسنانه الضائعة أخرى فضية، فيما بدا وجهه قبيحا ودميما، وهو الشكل نفسه، الذي اختاره لكرارة وجماعة الغجر.
والمثير أن المبالغة تجاوزت الممثلين إلى الديكور (أمير عبد العاطي)، الذي بدا فخما لدرجة الهدر واللاواقعية وعدم التصديق، والمثال الصارخ في ديكور قصر "غفران الغريب" وشحنة الذهب التي أهداها لزوجته جليلة (مي عمر).
فالبذخ الإنتاجي بغير تعقل انقلب إلى سفه ونزق وطيش إخراجي، قد يُبهرك شكلا فإذا ما دققت النظر في تفاصيله وأمعنت في قراءة ضروراته، تكتشف زيف العمل، باستثناء بعض العناصر اللافتة كالأداء التمثيلي للوجوه الشابة وتصوير نزار شاكر، والموسيقى التصويرية لمحمد العشيي وأغنية "التتر"، التي أداها تامر حسني بعذوبة، وكتبت كلماتها سارة سعيد، ولحنها هيثم نبيل، وتوحي بأنها ملخص لأحداث المسلسل؛ حيث قصة قابيل التي تتكرر من جديد.
اغتراب القلوب وافتراق الطرق وذبح الأصول وغدر الزمن والجشع، وتلك "المركب اللي شايلة دنس البشر، وعايمة بشراع مكسور". أما الاستعانة بمصحح لهجة (عبد النبي الهواري) فهي الخطوة المحترمة بحق التي تستحق كل تقدير.