لم تعد الصناعة التقليدية في موريتانيا، تحظى برواج وإقبال كبيرين، على غرار ما كانت تحظى به في السابق، لكن الأشخاص الذين عملوا فيها عقودا طويلة، يحرصون حتى اليوم على مواصلة "الحرفة" وحفظ هذا الجانب الغني من تراث البلاد.
ويعد الرجل السبعيني، محمد محمود ولد اعمرها، واحدا من هؤلاء، ففيما مضى، كان لا يجد الوقت الكافي حتى يلبي طلب زبائنه، عندما عمل حدادا ونجارا وصائغا.
أما اليوم، فكسدت التجارة، وأضحى محمد يكسب قوت يومه بالكاد، ويقول في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية"، "أحيانا يأتي أحدهم بسكين يريد سنها وأحيانا بآلة يريد إصلاحها.. باستثناء تاجر واحد في نواكشوط لم يعد أحد يشتري مني.. هذا التاجر يشترى الرواحل وبعض أغراض أهل البادية من حين لآخر".
ماض حافل
يعود محمد محمود بذاكرته إلى الماضي فيقول: "مهارتي أصبحت بلا جدوى.. كنت أصنع بهاتين اليدين كل شيء تقريبا. الفؤوس والسكاكين وآلات الزراعة و’’آبراريد’’(جمع براد وهو إبريق الشاي التقليدي) والتيداتن (التاديت وعاء من خشب خفيف تحلب فيه الغنم والبقر) وكل شيء.. لكن ’’المشاغيل’’ لم يعد يكترث بها أحد".
وتطلق "المشاغيل" أو الصناع أو المعلمين في موريتانيا على من يعملون في حرف الصناعة التقليدية التي تضم كل ما كان يحتاجه المجتمع البدوي.
ويشرح عبد الله ولد حميدات لموقع سكاي نيوز عربية، "في الماضي كان آباؤنا يمارسون الحدادة وأعمال العود (الخشب المقتطع من الأشجار) وصياغة الذهب والفضة، وكان النساء يمارسن أعمال الجلود والنسيج والزينه" .
ويضيف: "منذ نهاية السبعينيات تغيرت الحال ونزح الناس بفعل الجفاف إلى المدن فتغيرت تبعا لذلك حاجتهم للمنتج التقليدي".
وتشرح مريم بنت سيد المختار، وهي ربة بيت خمسينية، لموقع "سكاي نيوز عربية" ما كانت عليه الصناعة التقليدية: "كل متاع الخيمة كان من إنتاج الصانع التقليدي.. القدحان .. أوتاد الخيمة و’’أخرابها’’ و’’حمّارها’’ وركائزها والنشاشيب التي تثبت ’’دفاها’’ (القماش الذي يحف الخيمة من جوانبها لرد الشمس والرياح) وأواني الشاي و’’أرحال’’ (وهو مجموعة أعمدة مزركشة يصنع منها ما يشبه الطاولة وتوضع عليه الأمتعة في طرف الخيمة).
أما الصانعة، فهي التي تخيط ’’الفرو’’ وهو لحاف من جلود الخراف المدبوغة والمحتفظة بصوفها من أجل خياطته وتزيينه، والوسائد الجلدية المزركشة، والشكوة التي يوضع فيها الحليب ويمخض فيها اللبن الرائب...".
تحولات المدينة
مع التحول الهائل في حياة الموريتانيين من نمط حياة البادية والترحال، إلى أنماط القرية والمدينة، اختفت الحاجة إلى كثير من منتجات الصناعة التقليدية، فمثلا لم تعد الجمال وسيلة نقل رئيسية، ولذلك انعدم الطلب على الرواحل أو كاد.
فضلا عن ذلك، انتفت الحاجة للفؤوس التي كانت ضرورية لتقطيع الحطب وتكسيره. وبفعل العولمة واتفاقيات التجارة أصبحت الأسواق تعج بالأدوات والآلات والأواني المستوردة فلم يعد أحد يفكر في الصناعة التقليدية.
ودفعت هذه الوضعية بكثيرين من ممارسي هذه الصناعة إلى التركيز على صناعة الحلي وأدوات الزينة وخاصة الأساور والخلاخل الفضية التي برع الصناع التقليديون منذ القدم في صياغتها وزخرفتها بخشب الأبنوس.
في غضون ذلك، انهمك آخرون في الزخرفة والتحف اليدوية التي تجد إقبالا من طرف الأجانب. في حين هاجر كثير من هؤلاء إلى السينغال المجاور حيث السوق أفضل للمنتجات التقليدية "إنه مجال رحب. الناس هنا مقتنعون به ويعتاشون منه.. كما أن الفضة المستخدمة هنا من أنقى أنواع الفضة والأبنوس المستخدم فيها أصلي" يقول محمد بن ديون (58 سنة) موريتاني مقيم بداكار.
اهتمام رسمي
منذ بداية السبعينيات، بدأت الصناعة التقليدية تمثل اهتماما متزايدا للدولة الموريتانية.
وتمثل هذا الاتهام في تنظيم القطاع من خلال اتحاد للصناع التقليديين احتضنه المعرض الوطني بنواكشوط، فضلا عن جعل الصناعة التقليدية جزءًا من وزارة السياحة والتجارة.
وفي فترة تالية، تم إلحاق الصناعة التقلديية بقطاع الثقافة وهو ما استمرت عليه الحكومة الحالية.
وتنتهج الوزارة خطة للنهوض بالصناعة التقليدية بدأتها عام 2019، من خلال تنظيم لقاء أصدر مجموعة توصيات بدأت الوزارة في دراستها وتنفيذها.
ومن ضمن تلك التوصيات، إطلاق ورشات للتكوين في مجال صناعة الخزف بإشراف خبراء من المغرب، ثم إنشاء 3 مصانع للأواني الخزفية في كل من نواكشوط وكيهيدي والنعمة، وذلك بهدف دمج أصحاب المهارات في هذه الصناعة، مع أن التكوين ركز على فئتي الشباب والنساء.
وينتظر أن تفتح هذه المصانع بموريتانيا، ويبدأ العمل فيها في غضون أشهر.