طبيعة ساحرة، تختلط فيها المساحات الخضراء بالصحارى القاحلة وجبالها، لتفرض على أهلها مهنا توارثوها منذ قديم الزمان، دون أن يترك التطور والانفتاح الذي تشهده مدينة العلا السعودية، أثره عليها.
رعي الإبل والزراعة، مهنتان تجريان في دماء أهل العلا، كانتا ولا تزالان مصدر رزق كفيل بإعالة أسر بأكملها، مما يفسر تمسكهم الكبير بها.
على بعد نحو 40 دقيقة من مركز العلا، انطلق موقع "سكاي نيوز عربية" في رحلة إلى أحد مرابض الإبل، للقاء مالكها إبراهيم الضوان البلوي، الذي توارث تربية الإبل ورعيها عن أجداده.
ولدى الوصول، تجلى مشهد غروب الشمس، مع الإبل التي كانت طليقة ترعى في أنحاء المكان، قبل أن يقوم مالكها بمناداة "نايفة"، الناقة الأقرب إليه، ليقدمها لزواره.
ومع قدوم "نايفة"، بدا جليا أن العلاقة بين الإبل ومالكها تتعدى كونها تجارة فقط أو حتى هواية، وهو ما علق عليه البلوي بالقول: "كل ناقة أو جميل لديه شخصية مختلفة نميزها، كما أننا نميز أشكالها وأسمائها، وهي بدورها تستجيب للاسم الذي نطلقه عليها".
وتابع: "الإبل تعرف أصحابها وأصواتهم، وتصبح مع الوقت كفرد من العائلة، تقضي مع الراعي وقتا طويلا وتسافر معه، بل وتحرص على تدفئته في البرد بالجلوس بقربه وتغطية جسمه لحمايته من المطر".
وكان من اللافت أن العلاقة القوية بين الإبل والراعي، لم تتغير مع مرور السنين واختلاف طريقة الرعي نفسها. وقال البلوي: "كانت الإبل أو الأغنام قديما ترعى في الأماكن التي تسقط عليها الأمطار، وتتحرك من موقع إلى آخر بناء على ذلك، لكن الآن مع قلة تساقط الأمطار، أصبحت الإبل تأكل من الشعير والبرسيم وغيرها من الأعلاف التي تتم زراعتها أو شراؤها".
كما أشار إلى أنه قديما، كان الناس يعتمدون بشكل كامل على الإبل كمصدر للرزق، بحصولهم منها على اللحم والحليب، الذي تنتج الناقة الواحدة نحو 15 لترا منه يوميا. أما الآن، فإن غالبية الناس يتخذون الوظائف أو الأعمال الحرة مصدرا أساسيا للرزق، إلى جانب رعي الإبل.
وللتعرف على طبيعة الحياة لدى راعي الإبل ومجريات يومه، توجه موقع "سكاي نيوز عربية" بالسؤال لمالك إبل آخر يدعى ماجد الضوان، الذي قال: "ينتعش عملنا في موسم الربيع، حيث نطلق الإبل في الساعة السادسة والنصف صباحا لترعى طوال اليوم حتى وقت مغيب الشمس، لنقوم بعدها بربطها، وحلبها عند موعد صلاة العشاء".
ولحفظ الحليب الذي يحصل عليه الراعي من الإبل، أشار الضوان إلى أنه يتم الاعتماد على "الصميل"، قائلا: "تقوم والدتي بصناعة الصميل من جلد الأغنام، ويتم وضع حليب الإبل أو الماعز داخله، لحفظه لمدة تصل إلى 3 أيام".
أما لصنع الزبدة، فيتم استخدام أداة أخرى تعرف بـ"الغرب"، حيث يتم وضع اللبن داخله وخضه باستمرار لحين تكوين الزبدة.
أغراض علاجية
ولعل أكثر ما يثير الاهتمام في حياة راعي الإبل، هو اعتماده عليها في أغراض علاجية، إذ قال البلوي إن أهل البادية يلجأون إلى حليب الإبل للحفاظ على صحتهم، بينما يقوم الكثير منهم بخلط بول الإبل بالحليب وشربه لـ"تنظيف المعدة".
وتابع: "عانيت من الأوجاع بسبب القولون، إلا أنني شفيت منها تماما بعد أن واظبت على شرب خلطة البول والحليب".
ومع مرور الوقت، تحول رعي الإبل من مهنة بسيطة إلى تجارة مربحة، إذ نوه البلوي إلى أن أسعار بعض الإبل تصل إلى 30 مليون ريال.
وأوضح لموقع "سكاي نيوز عربية": " كان الناس يهتمون بالإبل كونها مصدر غذاء مهم، لكنه الآن تحول إلى تجارة، فمزاين الإبل تصل أسعارها إلى 30 مليون، كونها مصدر لإنتاج حيران (صغار) المزاين"، منوها إلى أن تلك الإبل الصغيرة قد تبدأ أسعارها من 50 ألف ريال.
وعن طريقة إنتاج الإبل في المزارع، أوضح البلوي أنهم يعتمدون على "فحل" واحد يبلغ عمره 18 عاما، يقوم بتخصيب الإناث، التي تحمل الجنين لمدة عام كامل، منوها إلى أن الإبل تعيش لمدة تصل إلى 35 سنة.
ولدى سؤاله عن أغلى أنواع الإبل، قال: "هناك 3 أنواع للإبل، الوضح وهو أبيض اللون، والحمر (حمراء اللون)، والصفر (سوداء اللون)، وأغلاها هو الوضح".
كما أشار إلى أن لكل قبيلة في المنطقة "وسم" خاص بها، يتم وشمه على رقبة الإبل أو فخذها، للتأكيد على تبعيتها للقبيلة، "حفاظا على حقوق الناس ومنعا للمشاكل".
وفي ختام حديثه، أكد البلوي تمسكه، هو وأهالي العلا، برعي الإبل، مؤكدا على أن ازدهار قطاع السياحة في المنطقة جعلهم "أكثر اهتماما بالإبل وحرصا على التمسك بتراث أجدادهم".
"واحات" في قلب الصحراء
وكحال البلوي، التقى موقع "سكاي نيوز عربية" بالمزارع عبد الرحمن بن عيسى، الشهير بـ"أبو ماجد"، الذي حرص هو الآخر على الحفاظ على تراث أجداده، وأنشأ مزرعة تعكس جمال العلا "حرفيا"، إذ تنتشر فيها الأشجار، التي تحيط بها الجبال الشاهقة.
وقال أبو ماجد: "مع تواجد البشر في العلا منذ قديم الزمان، انتشرت الزراعة بينهم وازدهرت مع مرور الوقت، وذلك بفضل المياه الجوفية التي كانت المدينة غنية بها بصورة كبيرة".
وأضاف: "عملت في الزراعة عندما شغلت منصب مشرف تربوي، وبالرغم من أنني عملت في الكثير من المجالات، فإنني لم أبتعد يوما عن الأرض، وقد تفرغت لها تماما بعد تقاعدي من وظيفتي".
وتابع: "تزدهر زراعة النخيل بمختلف أنواعها في العلا، إلى جانب القمح والشعير والذرة وغيرها من المواد التموينية التي يحتاجها السكان، بالإضافة إلى الخضراوات والفواكه مثل المانغو والبرتقال، وغيرها الكثير".
وأوضح أبو ماجد أنه يملك هذه المزرعة منذ 15 عاما تقريبا، وأن "أهم" ما تتم زراعته فيها من أشجار النخيل، هي "الحلوة" و"البرنية".
وعن الطريقة التي تعلم فيها الزراعة، قال: "ورثنا الزراعة عن أبائنا الذين تعلموها من آبائهم، فمنذ صغرنا، اعتدنا الذهاب إلى المزارع مع آبائنا لمشاهدتهم وهم يزرعون قبل أن نقلد خطواتهم حتى نتقنها شيئا فشيئا، وهذه هي الطريقة التي حرصت على تطبيقها مع أولادي".
الزراعة قديما
ولدى سؤاله عن طريقة الزراعة قديما، وكيف اختلفت اليوم، قال أبو ماجد: "كان المزارعون قديما يعتمدون على المحراث، أما اليوم فيستخدمون المعدات ويحظون بمساعدة العمال".
واستطرد قائلا: "كما أن طريقة الري اختلفت، إذ اعتمد مزارعو العلا على العيون (المياه الجوفية) لغمر مزارعهم، أما الآن فيتم الري بالتنقيط، خاصة بعد أن نضبت معظم العيون".
يذكر أن توزيع مياه العيون على مزارع العلا كان يتم بالاعتماد على "الطنطورة"، وهي عبارة عن شكل شبه هرمي بني على ارتفاع أعلى من السور الذي وضع عليه، والذي يؤكد أهالي العلا أنه سور مدرسة قديمة، ليكون بمثابة ساعة شمسية.
وكانت الطنطورة تستخدم قديما في غرضين أساسيين، هما تحديد موعد دخول "المربعانية"، وهي وقت زراعة القمح والشعير، وتقسيم مياه العيون (المياه الجوفية) على المزارعين.
وكانت توزيع المياه على المزارع، في يد محمد علي بن عيسى، والد "أبو ماجد"، وذلك بالاعتماد على "الطنطورة".
وقال: "ظل الطنطورة يحدد بالدقيقة مواعيد وصول المياه إلى المزارع، فإذا وصل الظل لحجر معين، معناها أن مزرعة فلان ستتلقى الماء، وهذه المهمة الدقيقة كانت من اختصاص والدي".
وأضاف: "كان يحدد بالنظر إلى الأحجار الموجودة على الأرض أمام الطنطورة المدة الزمنية التي سيستمر تدفق الماء فيها على المزرعة الواحدة".
ولدى سؤاله عما إذا كان الأهالي يلتزمون بذلك النظام، قال: "كان نظاما عرفيا لا بد أن يتبعه الجميع، وفي حال خالف أحدهم النظام كان يتعرض لعقوبة، كفرض غرامة تتعلق بتدفق الماء إلى مزرعته، أو بمحصوله، أو أن يدفع غرامة مالية".
وبالرغم من مرور آلاف السنين على الزراعة في العلا، فإن مقومات الزراعة الناجحة لم تتغير، بحسب أبو ماجد، فهي قائمة على الإصرار على العمل، وخدمة الأرض، وتوفير المياه، وإيجاد البذور الصالحة لاختيار أفضل الأنواع التي تتم زراعتها، وجميعها صفات تنطبق على أهل المنطقة الحريصين على الحفاظ على تراث امتد عبر أجيال.