"رسام المدينة".. هو اللقب الذي أطلق على الفنان العراقي الراحل حافظ الدروبي، وذلك لتعلقه الشديد ببغداد، وتأثيره الكبير في الفن، بمدينته المحببة، والذي لا يزال واضحا حتى يومنا هذا.
يعد الدروبي، الذي ولد عام 1914، وتوفي عام 1991، من مؤسسي الفن التشكيلي بالعراق، ومن رواد الفن المعاصر، الذي غير شكل الفن في العراق إلى الأبد.
فبعد دراسته للفن في العاصمة الإيطالية روما، نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، انطلق الدروبي ليصبح واحدا من أعلام الفن التشكيلي في العراق.
وبعد عودته من روما، أصبح الدروبي عضوا مؤسسا في جمعية "أصدقاء الفن"، مع جواد سليم وفائق حسن وعبد القادر رسام، ولتصبح أول منظمة فنية رسميه في العراق.
ويعتبر الدروبي أول من أسس مرسما حرا في العراق عام 1942، قبل أن يشكل جماعة "الانطباعيين العراقيين" عام 1953، ويصبح رئيسا لها.
الهوى البغدادي
"لقبه كان رسام المدينة، فحبه لبغداد كان لا يمكن وصفه"، هكذا بدأت سهيلة درويش، زوجة الفنان الراحل، حوارها مع "سكاي نيوز عربية".
ومن شدة حبه لبغداد، ضحى الفنان العراقي "بحبه الأول"، وهي فتاة بريطانية تعرف إليها خلال دراسته في بريطانيا.
وروت مينا الدروبي، حفيدة الفنان الراحل، قصة "الحب الأول"، حيث أحب الدروبي فتاة بريطانية اسمها جون، فعرض عليه والدها أن يقيم معهم في لندن، إذا أراد الزواج بها.
وقالت مينا في حديث خاص لموقع "سكاي نيوز عربية": "حبه لبغداد منعه من الزواج بجون، لم يستطع ترك العراق من أجلها، فترك جون ولندن وعاد لبلده، حيث التقى لاحقا جدتي".
وبدورها نشأت سهيلة هي الأخرى في عائلة فنية، وتعرفت على حافظ الدروبي خلال زياراتها المتكررة للمعارض الفنية في بغداد.
ووفقا لزوجة الفنان الراحل المقيمة في لندن، فإن "رسام المدينة" لم يلتزم بنوع محدد من مدارس الفن، بل خاض جميع المدارس الفنية.
وجرب الدروبي رسم لوحاته بالتكعيبي والانطباعي، وحتى التجريدي، وأبدع في كل منها، ولكن عاملا واحدا جمع لوحاته باختلاف أشكالها، وهي الرسائل الإيجابية المبهجة، والألوان البراقة المميزة.
وتعليقا على ذلك قالت مينا: "لوحاته تحمل لمحات إيجابية، وتعكس زمن العراق الجميل، وشخصيته الإيجابية"، مضيفة: "لوحاته كانت مثل لقطات للفترة الذهبية للعراق، وعندما أتحدث مع الأجانب الذين لا يعرفون الكثير عن تاريخنا، أريهم لوحاته، التي تشرح أفضل من أي طريقة أخرى، جمال العراق وحقيقته، التي قد لا تعود في المستقبل القريب".
يمنع الحديث بالسياسة
ورغم حبه الشديد للعراق، رفض حافظ الدروبي الانتماء لأي حزب سياسي، مما انعكس على فنه، الذي خلا من الرسائل السياسية، بخلاف الكثيرين من الفنانين الذين تألقوا في زمنه.
وحول هذه النقطة، أوضحت سهيلة: "كان يرفض الحديث في الدين والسياسة، لأنه كان يعتقد أن تلك الأحاديث تصنع الفرقة بين البشر، حتى أنه وضع لافتة في مرسمه عليها عبارة لا حديث في الدين ولا السياسة".
أبو الألوان
واتسمت أعمال الدروبي بالهدوء والبعد عن الصخب، حيث أحب نقل صورة جميلة وسعيدة عن المجتمع العراقي بجميع أطيافه وطبقاته.
ولم يخلو هذا الهدوء من الألوان البراقة المميزة، حتى أن عددا من زملائه كانوا يلقبونه "بأبو الألوان"، لأنه كان يستخدم مزيجا غريبا من الألوان، يكاد يكون غير مسبوق، كما كان يرفض استخدام الألوان المعروفة في لوحاته، حيث كان "يخترع" ألوانه الخاصة.
وحول أسلوبه في استخدام الألوان، بينت سهيلة: "كان يرفض أن يستخدم اللون الأحمر كما هو، كان يدخل عليه ألوانا أخرى حتى يظهر اللون غريبا براقا ولافتا للنظر ومثيرا للإعجاب والتساؤلات في الوقت نفسه".
محب للحياة
وكان معروفا عن الدروبي حبه للحياة، كما أنه كان يخشى الوحدة، حيث أحب العمل وسط العائلة والأصدقاء.
ومن أشهر عباراته في هذا السياق بحسب سهيلة: "نحن لم نولد للموت بل للتعبير عن نبض جماليات الحياة المتدفقة، والحيوية، والمتقدمة".
الوداع
وأكدت عائلة الدروبي أنه تم تزوير عدد كبير من لوحات الفنان الراحل، بعد الحرب التي اندلعت في عام 2003، مما دفع العديد من المزادات العالمية مثل كريستيز، للتواصل معهم للتأكد من أن لوحاته المعروضة في مزاداتهم هي فعلا له.
ورحل الدروبي 23 يناير 1991، بعد تعرضه لجلطة دماغية، في يوم حزين وصفته سهيلة بالقول: "كان يوما حزينا جدا، أتذكره حتى هذه اللحظة وكأنه أمس. الجو كان غائما والسماء ماطرة، وكأن بغداد كانت تبكي على رحيله".
رحل حافظ الدروبي قبل أكثر من ربع قرن، ولكن فنه باق حتى الآن، وسيبقى أعواما طويلة، مصدرا للأمل، لزمن جميل عاشته بغداد، وربما تعيشه مجددا يوما ما.