قبل نحو 24 قرنا كتبت شهادة ميلاد مدينة الإسكندرية، التي ظلت لعقود طويلة عاصمة لمصر ومنارتها العلمية والثقافية وقبلة الباحثين عن كل جديد في العلوم والفنون بمختلف مجالاتها.
وفي العصر الحديث انفردت الإسكندرية بشخصية مميزة على خريطة مصر الثقافية والفنية، إذ تضم قائمة مبدعي مصر في مختلف المجالات عشرات المبدعين، الذين ولدوا في الإسكندرية وتخطت شهرتهم الحدود.
وصلنا الإسكندرية قبل انتصاف النهار بقليل، حيث كان طريق الكورنيش أقل ازدحاما من ساعات الذروة الصباحية وفترة ما بعد الظهر، وعلى طول الطريق يفترش عدد من الشباب والفتيات الأرض موجهين أنظارهم صوب البحر فيما ينتشر العشرات من هواة الصيد وقد ألقوا بصناراتهم لالتقاط ما يجود به البحر من شتى أنواع الأسماك.
وفي هذه الأثناء كانت مؤسسة أولاد البلد تواصل حلقاتها النقاشية داخل مقر المعهد السويدي، الذي يقف في كامل أناقته مطلا على البحر، تحت عنوان "عمارة البلد هوية لا تستحق الهدم".
ففي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حط الآلاف من الأوروبيين رحالهم على شواطئ المدينة وأقاموا بها، وهو ما ترك أثرا واضحا في الطراز المعماري لبناياتها العتيقة، غير أن العقود الأخيرة شهدت اختفاء تدريجيا لبنايات ذات طابع معماري فريد ما دعا عددا من أبناء المدينة لإطلاق مبادرات عديدة للدفاع عن تراث المدينة المعماري، وفقا للمديرة التنفيذية لمؤسسة أولاد البلد، فاطمة فرج.
وأضافت: "حملاتنا تهدف إلى جانب مبادرات وحملات أخرى إلى الحفاظ على التراث المعماري لمدينة الإسكندرية والتي ولأسباب عدة تتعرض لخطر الاندثار وتغيير الهوية".
فمبادرة "أولاد البلد" ليست الوحيدة في هذا المجال، كما أن حملات ومبادرات شباب الإسكندرية لم تقف عند حدود الحفاظ على التراث المعماري للمدينة، ففي أحد الأحياء الشعبية بغرب الإسكندرية وبالتحديد في حي الورديان ولدت فكرة مكتبة " إفهم" وهي مبادرة شبابية أخرى تهدف إلى إعادة الدور التثقيفي للمقهى الشعبي، الذي لعب ومازال دورا مهما في الثقافة الشعبية المصرية.
فداخل أحد مقاهي الحي تقدم الكتب بالمجان سواء للقراءة أو الاستعارة وغير بعيد عن المقهى يوجد محل صغير يمتلكه أحد مؤسسي المبادرة تحول هو الآخر والرصيف المقابل له لمكتبة مفتوحة على الشارع.
ويقول معتز الشناوي، وهو ثالث ثلاثة أسسوا الفكرة إن مبادرة مكتبة "إفهم" تسعى لرفع معدلات الوعي لدى أبناء الإسكندرية في الأحياء الشعبية، ومكتبة المقهى لم تعد فقط موقعا لتبادل الكتب وقراءتها بل نجحنا وبفضل تعاون أصحاب المقهى وأبناء الحي وعدد من مثقفي الإسكندرية في تنظيم عدد من حفلات الموسيقى والغناء وندوات قراءة وإلقاء الشعر داخل المقهى.
وأضاف الشناوي: "نؤمن في المبادرة بأن التثقيف والتنوير هو أحد أهم سبل مواجهة الأفكار المتطرفة".
وبعد انتهاء زيارتنا لحي الورديان، حيث المقهى المكتبة التقينا عددا من شباب الموسيقيين في الإسكندرية أسسوا فرقة سموها "هجين" وتقدم الفرقة نوعا من موسيقى "الريجي"، حيث تمتزج أنواع عدة من الموسيقى الغربية في قالب موسيقي خاص يقدم من خلاله أعضاء الفرقة أغنيات تدعو للحب والسلام وتنتقد ما يعتبرونه ظواهر سلبية في المجتمع.
ويعتبر عبد الله بودي أحد مؤسسي الفرقة أن ما يقدمونه هو امتداد لإبداعات موسيقية قدمها أبناء الإسكندرية بداية من فنان الشعب سيد درويش ووصولا لعدد كبير من الفنانين والموسيقيين.
وقبل أن ننهي زيارتنا إلى الإسكندرية، أردنا أن يكون الختام مع الفنان سمير صبري، الذي يعتز بلقب أطلقه عليه الروائي والأديب المصري الكبير يوسف إدريس، وهو لقب " سفير الإسكندرية" يقول سمير صبري إن قائمة مبدعي الإسكندرية تضم عشرات الأسماء في مختلف المجالات.
ويفخر صبري بأن أول عرض سينمائي في مصر والمنطقة بأسرها كان في الإسكندرية منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر.
ويواصل سمير صبري قائلا : "ليس هناك مجال من مجالات الفن والثقافة والإبداع إلا وتجد فيه اسم قامة من قامات الإسكندرية وعلما من أعلامها ففي الفن التشكيلي تجد أدهم وسيف وانلي ومحمود سعيد".
وفي الموسيقى، يسطع اسم فنان الشعب سيد درويش، وفي السينما، تجد أسماء كثيرة محفورة في ذاكرة عشاق الفن السابع في العالم مثل يوسف شاهين وعمر الشريف ويرجع سمير صبري هذا التميز السكندري في الثقافة والفنون للأجواء السكندرية وبيئتها الخلابة على حد وصفه، إضافة إلى عمليات التبادل الثقافي الممتد لعقود والذي اشتهرت به الإسكندرية بسبب وجود عد كبير من أبناء الجاليات الأجنبية التي عاشت على أرضها لعقود طويلة
وأنهينا حوارنا مع الفنان سمير صبري أو سفير الإسكندرية ونحن نتأهب للمحطة الثانية في سلسلة حواديت مصرية لإقليم الدلتا حيث نروي معا حدوتة صناعة الأثاث في دمياط.