في أحد أقبية المتحف المصري بالقاهرة، لم يكن جثمان الملك رمسيس السادس يشعر بالارتياح في مرقده بالصندوق الخشبي، إذ كانت مومياؤه مفتتة لـ187 قطعة.
وبحسب المعتقد المصري القديم، فإن سلامة الجسد هي بوابته للخلود في العالم الآخر.
ومع الوضع المزري لمومياء الملك رمسيس السادس، قرر فريق من العلماء المصريين إصلاحها من جديد باستخدام تقنيات العلم الحديث، ليكتمل بنيان المومياء المفتتة وتُنقل إلى المتحف القومي للحضارة بالفساط، وتصبح جاهزة للعرض أمام الجمهور.
هذه الجهود المضنية والممتدة لنحو 4 سنوات، حاول خلالها المتخصصون إجراء دراسة دقيقة لأجزاء مومياء رمسيس السادس، للوقوف على كل التفاصيل التي تساعد على التوصل إلى تجميع المومياء بشكل كامل.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجهود كانت جزءا من عملية ترميم واسعة شملت 22 مومياء ملكية، نُقلت لاحقا إلى المتحف القومي للحضارة، لكن مومياء رمسيس السادس كانت الأكثر اهتراء.
تحنيط جيد رغم التمزق
مصطفى إسماعيل مدير مخزن المومياوات رئيس معمل صيانة المومياوات بالمتحف القومي للحضارة، يروي قصة استعادة مومياء رمسيس السادس، بعد أن عثر عليها ضمن مجموعة مومياوات في الخبيئة الملكية بمقبرة أمنحتب الثاني بوادي الملوك في الأقصر عام 1898.
كما عثر على مخطوط من عهد الأسرة 21، يفيد أن المومياء كانت مفككة وتم إعادة وضعها في لفائف من جديد.
ويعزو المرمم المصري حالة المومياء الممزقة إلى احتمالين، إما صراعات سياسية أو تعرضها للسرقة من أجل الحصول على الذهب الذي كان يزينها.
ويقول إسماعيل في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية": "رغم عثورنا على المومياء مجزأة لـ187 قطعة، فإن حالة تحنيط القطع نفسها كانت جيدة للغاية".
ويدلل المرمم المصري على جودة التحنيط في هذه الفترة، بالتأكيد أنه "رغم تمزق المومياء فإنها لم تتأثر بالبيئة المحيطة ولم تتحلل، ويعود ذلك بالأساس إلى أن الخامات المستخدمة في التحنيط كانت تصل إلى الألياف البروتينية"، وهو ما لاحظه إسماعيل عند فحص أجزاء المومياء تحت الميكرسكوب.
ووفقا لطريقة التحنيط المتبعة في مصر القديمة، فإن "الراتنجات" ومستخلصات النباتات العطرية هما المكونان الرئيسيان المضادان للجراثيم اللذان كانا يحفظا الأنسجة الرخوة للمومياوات تحتها، وبالتالي يعملان على حماية المومياء من التلف والتحلل.
والراتنج الصمغي مستحلب طبيعي يؤخذ من أشجار الصنوبر والعرعر، وكان هناك راتنج محلي ينتج قفط في صعيد مصر، بحسب ما جاء في "كتاب التحنيط.. فلسفة الخلود في مصر القديمة" للكاتب أحمد صالح.
رحلة تجميع المومياء
ويقول إسماعيل إن المرحلة الأولى لتجميع المومياء تبدأ بالفحص البصري الذي يساعد على تصنيف العظام، ثم تأتي مرحلة الفحص بميكروسكوبات متعددة لمعرفة شكل كل جزء والمقابل له بحيث يتم وضعه في مكانه الصحيح.
ويستفيض إسماعيل في شرح طريقة تصنيف العظام: "مرحلة التصنيف طويلة ومعقدة، حتى نستطيع أن معرفة موضع كل قطعة عظام، ومن أهم المعايير في هذه العملية مقارنة العظام التي نعثر عليها مع مناطق الكسور الموجودة في المومياء ومعرفة مدى التطابق بينهما، وهو ما نطلق عليه (شكل الحجم)".
ومن بين المراحل المهمة في رحلة تجميع مومياء رمسيس السادس، يوضح المرمم المصري أن الباحثين أجروا دراسة تحليلية للهيكل الداخلي للمومياء، من خلالها تم رصد شكل كل جزء والوقوف على تفاصيله الدقيقة، ثم الانتقال إلى مرحلة الأشعة المقطعية.
و"في النهاية نقوم بتفسير النتائج التي تساعد على تجميع المومياء بشكل صحيح"، وفقا لإسماعيل.
الأشعة المقطعية
وتعد الأشعة المقطعية محطة أخرى مهمة في رحلة استعادة مومياء رمسيس السادس، فقد ساعدت على تنفيذ محاكاة للمومياء على جهاز كمبيوتر بتفاصيلها الدقيقة.
وفي هذا الصدد توضح أستاذ الأشعة التشخيصية عضو لجنة العرض بمتحف الحضارة سحر سليم، دور الأشعة المقطعية بشكل أكثر تفصيلا، إذ تقول إنها بدأت منذ عام 2005 مشروع فحص المومياوات الملكية حيث تم فحص 40 مومياء من هذا التاريخ حتى الآن.
وتضيف لموقع "سكاي نيوز عربية": "من بين المومياوات التي تم فحصها خلال هذه الفترة مومياء رمسيس السادس؛ ،ذ بدأ أول فحص لها في مايو 2019 وعند فحصها وجدنا أن كانت مبعثرة وحالتها مهترأة بشكل كبير".
وتقول سحر سليم إن الأشعة المقطعية تكشف حالة التحنيط ومدى جودته، وكذلك تساعد على التعرف على الحالة الحالية للمومياء والمواد المستخدمة في تحنيطها.
وبعد إتمام الترميم أجريت أشعة مقطعية جديدة لمومياء رمسيس السادس في 11 مايو 2020 للتأكد من سلامتها، وهو ما قالت عنه سحر سليم: "الأشعة أظهرته في صورة جيدة جدا".
الترميم
لم يكن تجميع العظام وحده كافيا لاستعادة المومياء التي بلغ طولها في النهاية حوالى 178 سم، لكن الترميم امتد إلى استخدام مواد مثل الراتنجات والزيوت وغيرها من المواد التي كان يستخدمها المصري القديم.
ويقول إسماعيل إن فريقه درس بعناية المواد التي استخدمت في ترميم المومياوات قديما، ثم أضيفت محسنات إلى تلك المواد.
البحث عن الأجزاء المفقودة
ويشير إلى أن الأجزاء المفقودة من مومياء رمسيس السادس، هي الجزء العلوي من الجمجمة، والجزء العلوي من القفص الصدري، وكذلك منطقة البطن، ويؤكد أن "هذه الأجزاء ربما يعثر عليها في لفائف أخرى".
ويؤكد إسماعيل أن مطابقة الأجزاء الموجودة في لفائف أخرى مع أي مومياء يتم بمنهجية علمية تبدأ بفرز العظام ثم تصنيفها وكشف مدى مطابقتها لعظام أخرى.
ومن بين العلامات التي تدلل على تطابق قطع العظام مع المومياء تشابه مادة الراتنج التي كان يستخدمها المصري القديم في التحنيط، إذ أن تكوين تلك المادة يتباين من مومياء لأخرى، لذلك يمكن التعرف بالفحص البصري والتحليل الكيميائي على اختلاف الراتنج.
مطابقة البصمة الوراثية
وتبقى مرحلة أخيرة للتأكد بشكل حاسم من مدى مطابقة الأجزاء المفقودة من المومياوات بالأجزاء التي يرجح المرمم أنها قد تطابقها، وهي التحليل الكيميائي للعظام، أو تحاليل البصمة الوارثية، التي يتحدث عنها الأستاذ المتفرغ في الوراثة الجزيئية بالمركز القوم للبحوث المشرف العلمي لمعمل الحمض النووي القديم بالمتحف القومي للحضارة المصرية يحيى زكريا.
وبحسب طبيعة عمل زكريا على تحليل بصمة الحمض النووي للمومياوات، فإنه يوضح أن التقنية المفعلة مع المومياوات المجزأة هي ذات التقنية التي تستخدم في الطب الشرعي في حالة وجود أجزاء متفرقة لجسد بشري، إذ تتم مقارنة بصمة الحمض النووي من الجسد بالأجزاء المتفرقة لمعرفة التطابق بينها.
ويشير زكريا في حديثه لـموقع "سكاي نيوز عربية" إلى أن جميع أنسجة الجسد تحمل نفس البصمة الوراثية، لكن في نفس الوقت قد يكون هناك صعوبة تقنية بعض الشيء في تحليل المومياوات، التي يعود عمرها لآلاف السنين.
وتكمن الصعوبة في استخلاص البصمة الوراثية، خاصة أن هناك مواد تحنيط في بعض المومياوات تعيق التفاعل أثناء إجراء التحليل، بحسب ما يقول أستاذ الوراثة الجزيئية.
ويشير العالم المصري إلى أن تحليل البصمة الوراثية للمومياوات يتيح مقارنة جسد المومياء غير المكتمل مع أجزاء أخرى، ومن ثم التعرف عليها، وكذلك مقارنة مومياء بأخرى لمعرفة إذا ما كان هناك درجة قرابة بينهما من عدمه.
يشار إلى أن رمسيس السادس هو أحد ملوك الأسرة العشرين، وهو الابن الوحيد الشرعي لرمسيس الثالث، وتولى الحكم لمدة 4 سنوات وفقا لما أورده الدكتور أحمد فخري في كتابه تاريخ مصر الفرعونية، وهناك آراء أخرى تقول بإن رمسيس السادس حكم 8 سنوات.
وفي مجموعته "موسوعة مصر القديمة" يقول الدكتور سليم حسن إن جميع الشواهد تدل على أنه هو الذي تولى العرش بعد ابن أخيه "رمسيس الخامس"، لكن التاريخ الدقيق لذلك غير معروف.