نشرت أسبوعية "الجيش" الناطقة باسم المؤسسة العسكرية الجزائرية، بداية هذا الأسبوع، مقالا افتتاحيا أسال الكثير من الحبر. فقد كان مفاجئا لكثيرين أن تؤكد الأسبوعية في مقالها على التزام الجيش بالشرعية، وتكذيب ما أشيع عن وجود أي خلاف له مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
ما كان مفاجئا في "الافتتاحية"، ليس التأكيد على الالتزام بالشرعية ونفي وجود أي خلاف مع الرئاسة، أو تكذيب ما يشاع عن رغبة قيادات الجيش في الانقلاب على بوتفليقة المنهك بالمتاعب الصحية، وإنما مجرد التطرق إلى الموضوع، وهي الصحيفة التي دأبت على النأي بنفسها عن صراعات السياسة، إلا في حالات نادرة، كانت فيها الجزائر أمام مفترق طرق هام.
ومفترق الطرق هذه المرة -حسب المتابعين للشأن الجزائري- هو تحديدا جدل الصحافة والشارع السياسي بشأن خلافات بين أجنحة السلطة، كانت أبرز تجلياتها استقالة أو إقالة أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم عمار سعداني من منصبه، في سيناريو لم يتوقعه حتى سعداني نفسه.
وقد اتفقت معظم الآراء حينذاك أن سعداني -الذي ينظر إليه كبيدق في يد السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المريض- نسج علاقة مشبوهة بقائد أركان الجيش الجنرال قايد صالح، وتجاوز حدود الدور المرسوم له في قصر المرادية.
وأعطى هذا الخلاف انطباعا قويا بأن الجنرال المسن (86 سنة) أصبح هو الآخر يسعى إلى المنافسة على ملء الفراغ الذي خلفه مرض بوتفليقة.
وفي غياب قنوات اتصال علنية وواضحة بين مؤسسات الدولة وجمهور الفضوليين من كتاب الافتتاحيات ورواد مواقع التواصل، أخذت الأخبار والشائعات تتواتر بشكل سريع ومتناقض أحيانا، عن غضب السعيد بوتفليقة من خروج سعداني و من ورائه قايد صالح عن بيت الطاعة، وعن عودة مدير الاستخبارات السابق الجنرال توفيق إلى الواجهة.
بالإضافة إلى وجود قيادات في الجيش بدأت تسأم من حالة الجمود المعززة بوضع اقتصادي يدعو إلى القلق، وعن ضغوط أحزاب المعارضة، رغم ضعفها، وتحذيراتها من وضع اجتماعي قد ينفجر في أية لحظة.
هذه الأخبار والشائعات تزامنت مع إجراء بوتفليقة "فحصا روتينيا" جديدا -كما اصطلح على تسميه- في مستشفى غرونوبل الفرنسي، ومع سلسلة زيارات ميدانية لقائد الجيش إلى عدة ثكنات ومناطق عسكرية، ضمن جولات "تفقد روتينية" هي الأخرى.
وتقاطعت أيضا مع إعادة هيكلة إدارة حزب جبهة التحرير الذي يمثل الواجهة السياسية للرئيس وشقيقه في المشهد العام، فأثار كل ذلك نقاط استفهام كثيرة في الشارع ودفع بصحيفة "الجيش" -التي لا تنطق عن الهوى- إلى الانتقال من افتتاحيات "الفعل" إلى افتتاحيات "ردود الفعل".
لكن ما لم ينتبه له القائمون على هذه "الافتتاحيات" أن الجميع أصبح يؤمن في الجزائر بالقاعدة القائلة أن النفي الرسمي للأخبار تأكيد على أحد احتمالين: إما لأنها صحيحة ولا يفضل إظهارها للعلن، أو أنها غير صحيحة ولكن أطرافا تصدقها وأصبحت تتصرف انطلاقا من ذلك.
وفي الحالتين معا، فإن ما كشفت عنه الصحيفة يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن صراع الأجنحة والمصالح في الجزائر حاضر بقوة هذه الأيام، وأن سهاما كثيرة أصبحت مصوبة باتجاه أسماء كثيرة، لكن لا أحد يمكن أن يتكهن إن كانت تلك السهام ستطلق فعلا أو أن تلك الأسماء ستسقط قريبا.