منذ شهر ديسمبر 2012 خرج جبل الشعانبي التونسي عن صمته وخلع ثوبه الخلاب، ليكشف عن ملامح تزرع الموت تحت الأقدام. فكيف تحول هذا الجبل الخصب إلى بؤرة يتغول فيها القتل والإرهاب؟
جبل الشعانبي المتهم والضحية الأولى في ماراثونات الملاحقة بين أفراد الجيش التونسي والمسلحين المتحصنيين في أحراش هذه القمة الشاهقة، وتستمر هذه المعارك والملاحقات تحت عنوان الدم ودون حسم، رغم أن مساحة الشعانبي ليست بالواسعة، وهو ما يضيف غرابة هذا الموقع ويزيد قصة هذا الجبل تشويقا.
وطالما اعتز التونسيون بجبل الشعانبي باعتباره أعلى مرتفع في تونس، إذ تبلغ قمته 1544مترا ويقع في الوسط الغربي للبلاد على الحدود مع الجزائر.
ويكسو الصنوبر الجلبي ذلك الجبل، مما بوأه لاحتضان ما يسمى بالحديقة الوطنية بولاية القصرين والّتي تضمّ 262 نوع نباتي، و24 فصيلة من الثدييات و16 نوعا من الزواحف والضفادع، ومنذ ديسمبر 1980 أصبحت حديقة وطنية بمقتضى أمر رئاسيّ.
ويحتوي الجبل على مناظر طبيعية خلابة جاذبة للمستثمرين و يذهب العديدون الى اعتباره موطنا لمدخرات هامة من الثروات الباطنية.
وهكذا كان حال الشعانبي قبل أن يحوله بعض المسلحين إلى بؤرة توتر،حيث بدأت عمليات تمشيط الشعانبي عندما قتل ضابط في الحرس الوطني يوم 10ديسمبر 2012 في مواجهة مع مجموعة بجبل درناية القريب من قرية بوشبكة الواقعة على الحدود الجزائرية غربي تونس، وذلك على إثر اكتشاف وحدات الحرس معسكرا للتدريب،
وقالت وزارة الداخلية وقتها إن المجموعة تنتمي لكتيبة عقبة بن نافع، التابعة لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ومع الأيام ستكون تلك الجماعة المسلحة مسؤولة عن كل العمليات الإرهابية في الشعانبي، وفقا لمصادر أمنية وعسكرية.
مستنقع الشعانبي
عام ونصف العام على بدء أحداث الشعانبي اهتز فيها الجبل بألغامه التي أصبح عدّها أمرا صعبا.. ألغام زرعتها مجموعات لم تعلن أبدا عن نفسها وتبرأ من زرعها كل المتهمين من أنصار الشريعة بتونس، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فيما خلفت هذه الأحداث عشرات الضحايا من الجيش والأمن بين قتلى ومصابين.
وتتالت الانفجارات وارتفع على وقعها عدد الضحايا، حيث انفجرت 4 ألغام في مايو 2013، وأدت إلى إصابات فادحة بين الجنود إذ فقد بعضهم أرجلهم، وخسر آخر بصره، بالإضافة إلى إصابة آأرين بجروح خطرة.
وفي 29 يوليو 2013 تم نصب كمين من طرف مجهولين أدى إلى قتل 8 جنود تونسيين وجرى التمثيل بجثثهم في حادثة تعتبر فريدة من نوعها في البلاد، وأثارت غضبا عارما لدى الرأي العام.
وبدأ الجيش عملية عسكرية واسعة النطاق مستخدما الطائرات الحربية والمدافع والدبابات في جبل الشعانبي للقضاء على المجموعات المسلحة المتهمة بقتل الجنود الثمانية وزرع ألغام في الأراضي التونسية.
ولم يتوقف عداد الموت في عملية إحصاء أرواح العديد من أفراد الجيش التونسي، إذ أودى لغم بحياة اثنين من الجنود عقب انفجار مركبة عسكرية للجيش.
وفي 11 أبريل 2014، أصدر الرئيس التونسي المؤقت محمد المنصف المرزوقي، قرارا جمهوريا بجعل جبل الشعانبي "منطقة عمليات عسكرية مغلقة".
ومع مرور عام ونصف العام على انطلاق عمليات تتبع المسلحين في الجبل والجبال المجاورة له، سقط العديد من أفراد المؤسسة الأمنية والعسكرية.
ومثلت هذه العمليات العسكرية تغييرا في استراتيجية الجيش التونسي في مواجهة الإرهاب خلال أبريل الماضي، وطوال الأشهر السابقة لشهر فبراير 2014 واصلت وحدات الجيش التونسي قصفها لمواقع مفترضة لإرهابيين حتى تحول دوي القصف إلى خبز يومي للمناطق القريبة.
وتتواصل العملية العسكرية أشهرا دون أن يتمكن الجيش من السيطرة البرية على جبل الشعانبي، فالألغام المزروعة والتي بدأت في الانفجار خلفت خلال شهر مايو أكثر من 18 جريحا ومصابا من أفراد قوات الجيش والحرس، فيما قالت النقابات الأمنية إن عمليات التمشيط داخل جبل الشعانبي هي عملية مطاردة للأشباح إذ تنفجر الألغام في مناطق تم تمشيطها سابقا.
ويستمر الشعانبي في مخاضه العسير تحت وابل من الرصاص والدم ويعشش الإرهاب القاتل في أحراشه رغم سعي الجيش التونسي لبتر أوصاله المتشعبة.
ولايزال هذا الجبل يغفو ويصحو على وقع الانفجارات على أمل أن يسترجع سكينته المسلوبة ورواده الأصليين المطرودين منه، من الرعاة ومحبي الطبيعة وليس تجار الموت وزراع الكمائن.