أكد الدكتور أنور بن محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، أن الحرب الدائرة في غزة تمثل انتكاسة خطيرة لجهود خفض التصعيد في المنطقة برمتها، محذرا من أن إطالة أمد الحرب سيزيد من مخاطرها ومن بينها انتشار الحرب على المستوى الإقليمي.
وأعرب قرقاش، خلال كلمة ألقاها في جلسة بعنوان "الانتقال نحو المنافسة العالمية"، والتي عُقدت ضمن فعاليات الدورة التاسعة عشرة لمؤتمر "حوار المنامة"، عن قلقه من أن العنف الحالي لن يؤدي إلا إلى اندلاع مزيد من العنف، وتأجيج المزيد من التطرف في المنطقة، لذا لا بُد من منع ترسّخ سرديات الانقسامات في المنطقة، ومواجهة التطرف بجميع أشكاله.
وبحسب وكالة أنباء الإمارات، أوضح قرقاش أنه على الرغم من أن الوقت ما زال مبكراً لمعرفة آثار هذه الأزمة على مسار العلاقات الإقليمية والدولية، إلا أنه ينبغي الإقرار بأن تداعياتها القوية ستستمر لسنوات قادمة، وأن الوضع الذي يتكشف في غزة حالياً يثير تساؤلات بشأن حماية المعايير الدولية، وبشأن القيم، ومدى فعالية النهج والأساليب المعتادة في حل الأزمات.
وقال: "أعتقد أنه بات واضحا أن بعض هذه الأساليب تتطلب مزيداً من الدراسة المتأنية والتمحيص، ومنها على سبيل المثال سياسة الاحتواء التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية لفترة طويلة. وكما أظهرت أحداث الشهر الماضي، سيكون من الخطأ الفادح الفشل في إعادة الانخراط سياسيا في إطار عملية السلام بهدف التوصل إلى حل الدولتين، وهو ما سيوفر أفقا لتحقيق سلام دائم ينعم به كلا الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، الأمر الذي يستوجب مشاركة دولية قوية ومستدامة".
وأضاف الدكتور أنور قرقاش أنه "بينما تواصل الإمارات العمل الجاد من أجل وقف الأعمال العدائية، فإن أولويتها العاجلة تتمثل في وصول إنساني مستدام وغير مقيد، وتقديم كميات كبيرة من مواد الإغاثة للتخفيف من معاناة المدنيين في غزة. واستجابة لهذه الحاجة الماسة، كثفت دولة الإمارات بشكل كبير جهودها الإنسانية لدعم سكان غزة، ليس من خلال زيادة التزاماتها المالية فحسب، وإنما أيضاً عبر العمل التضامني مع الفرق الطبية في غزة لإنشاء مستشفى ميداني للطوارئ هناك، وكذلك عن طريق نقل الأطفال من غزة برفقة أسرهم إلى دولة الإمارات لتلقي العلاج الطبي، حيث تعمل الإمارات على مختلف المستويات بما فيها الدبلوماسي، بوصفنا عضواً في مجلس الأمن الدولي، كما تعمل مع الشركاء الإقليميين، من أجل إنقاذ الأرواح والمساهمة بشكل بناء في الجهود المبذولة لحل النزاع".
وبخصوص المنافسة العالمية، قال قرقاش: "خلال مشاركتي في حوار المنامة لعام 2019، تحدثت كيف كنا على وشك الدخول في عام 2020 بنظام عالمي متحول للغاية، بدا وكأنه يفتقر إلى اتجاه واضح، نظام عالمي تتصاعد فيه إمكانية زيادة المنافسة بين القوى الكبرى، بما في ذلك في الشرق الأوسط، وبعد مضي بضعة أشهر فقط، انتشرت جائحة كوفيد 19 في جميع أنحاء العالم، مما أضاف بعداً غير مسبوق من عدم اليقين والغموض في السياق الاستراتيجي الدولي، وتسبب باضطرابات جمّة في الاقتصاد العالمي".
وتابع: "كما تزيد الحرب في أوكرانيا من حالة عدم اليقين الجيوسياسي، مقرونة بآثارها غير المباشرة على الاقتصاد الدولي بأكمله وعلى الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وهو ما تسبب بمزيد من الانقسامات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومما زاد بدوره من صعوبة التوصل إلى توافق بشأن القضايا الرئيسية المتعلقة بالأمن والسلم الدوليين. وبالمثل، فإن الجمود الأولي الذي وصل إليه مجلس الأمن الدولي بشأن الوضع المأساوي في غزة والذي استمر لعدة أسابيع وحتى يومنا هذا على الرغم من توافق الآراء في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الخطوات التالية في غزة، يعكس حقيقة الساحة الدولية المنقسمة".
وأوضح المستشار الدبلوماسي أن "لهذه التحولات في النظام العالمي انعكاسات كبيرة على العلاقات الدولية، وتشير هذه التحولات أيضاً إلى ما قد تصبح أزمة أكبر للنظام الدولي في حال لم تتخذ الخطوات اللازمة لتصحيح هذا المسار. كما أن هذه التحولات تتفاقم بسبب التوجهات العامة الأوسع كتغير المناخ، وطبيعة عالمنا الحديث المترابط للغاية، والآثار السياسية والاقتصادية والأمنية للمنافسة في مجال التكنولوجيا. ويجب الإشارة هنا إلى أن طريقة سيرنا وتعاملنا مع هذه التوجهات ستؤثر على شكل مستقبلنا".
وأضاف: "الشرق الأوسط على دراية كبيرة بالمنافسة الجيوسياسية الجارية في نظامه الإقليمي. والواقع أن أحد التحديات الرئيسية التي نواجهها تتمثل في الديناميات المتغيرة للسياسة العالمية، ونحن نعي جيداً أن نظاماً دولياً أكثر اضطراباً سيؤثر حتماً على منطقتنا، وهي مسألة علينا التعامل معها سواء كان ذلك فيما يتعلق بمخاوف بشأن كيفية تطور المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط، وهي منافسة لا نرغب في أن يتم تحديد موقعنا وقيمنا من خلالها، أو فيما يتعلق بالتساؤلات حول كيف سيبدو النظام الدولي في اليوم التالي بعد الحربين في أوكرانيا وقطاع غزة".
وأبرز أن الانتقال نحو نظام دولي يغلب عليه الانقسام بشكل متزايد ليس في مصلحة أحد، وكذلك هو الحال بالنسبة لحالة عدم اليقين المتزايدة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فالمنطقة التي مرت بأصعب عقد من الزمن بسبب ما سُمي بعقد الربيع العربي، هي المنطقة التي يشكل فيها خطر التصعيد وتزايد فراغات السلطة تهديداً مستمراً".
وأكد ضرورة استمرار الشرق الأوسط في رسم مساره بعناية بالغة لضمان الاستقرار والازدهار والسلام لدولنا، وذلك في ظل حالة من عدم الاستقرار والاضطراب في الشؤون الدولية والإقليمية، وفي عالم يتسم بالتغيرات المتسارعة والمنافسة المتزايدة.
وأردف قائلا: "لقد شهدنا بعض المؤشرات الواعدة في السنوات القليلة الماضية، حيث عملت دول الشرق الأوسط معاً لإيجاد حلول لخفض التصعيد وتهدئة الصراعات، وإعادة بناء العلاقات، والتركيز على الأهداف المشتركة وعلى الرغم من أن هذا التقدم كان متفاوتاً، إلا أننا جددنا الأمل في أن يرسم الشرق الأوسط مساراً جديداً في السنوات القادمة".
وأضاف: "إن الوقت قد حان أيضاً للنظر إلى المستقبل، وطرح بعض الأسئلة العميقة والاستقصائية على أنفسنا. هل يمكننا المحافظة على زخم استشراف المستقبل رغم الأزمات الإقليمية؟ وفي ظل الحرب الدائرة في غزة وتداعياتها، هل يمكننا العمل معاً لإيجاد حلول دائمة لتهدئة التوترات الحالية في الشرق الأوسط؟ وأعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة هي أننا يجب أن نواصل وبحزم طريقنا في الدفاع عن الاستقرار الإقليمي".
وقال المستشار الدبلوماسي "إنه وبينما يتم التصدي للأزمة الحالية في غزة، لا بُد من مواصلة الجهود الرامية إلى "إصلاح المنطقة"، وذلك عبر تعزيز الخطط الوطنية للتنمية لضمان التقدم، ومن خلال الجهود التعاونية مع الشركاء الدوليين والإقليميين لوضع استراتيجيات طويلة الأمد للمنطقة، حيث أن الحاجة إلى شركاء موثوق بهم في المنطقة أمر أساسي.. هذا الأمر يستوجب وضع نظام لحل الأزمات بدلاً من احتوائها، لأن هناك قضايا في المنطقة تحتاج إلى حلول مستدامة؛ منها عدم وجود حل دائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكذلك الأزمات المستمرة الأخرى والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وتطلعات الشباب إلى السلام والازدهار في جميع أرجاء المنطقة، وعلى الرغم من أن بعض هذه القضايا لا تزال بعيدة المنال، إلا أنه يجب معالجتها لتحقيق قدر أكبر من الاستقرار في الشرق الأوسط".
وأكد الدكتور أنور قرقاش "التزام دولة الإمارات بأمن المنطقة واستقرارها، والعزم على مواصلة العمل على أجندة الازدهار المشترك في المنطقة. ومن خلال القيام بذلك، ستستمر الإمارات في إعطاء الأولوية لخفض التصعيد، وإقامة الشراكات، والعمل الدبلوماسي، والتركيز على الجيواقتصاد كون المرونة الاقتصادية أمرا أساسيا لازدهار دول المنطقة، ولتحقيق الاستقرار المشترك الذي يعود بالنفع على الجميع".
ولفت إلى أنه إذا ما تم النجاح في السعي نحو تحقيق هذه الأهداف عبر اتباع سبل شاملة وتعاونية مع الشركاء الإقليميين والدوليين، فمن الممكن تحسين الأمن الإقليمي وإرساء الأسس اللازمة لشرق أوسط أكثر ازدهاراً وسلاماً في السنوات القادمة.