نقل صحفي سكاي نيوز عربية، فال المومن، عددا من المشاهد الحزينة خلال تغطيته لمأساة مدينة درنة الليبية، التي تكبدت خسائر مهولة جراء الفيضانات التي دمرت مساحات شاسعة من المدينة الساحلية.
هنا كانت هنا أبرز مشاهداته بعد العودة من قلب الكارثة الطبيعية:
غير بعيد عن كورنيش مدينة درنة التقيت رجلا بدا في الستينيات من ملامحه، لحيته البيضاء التي كانت تغطي الكمامة جزءا منها تخفي وراءها أثر السنين.
سألته: هل أنت من أهل درنة؟
قال: لا، جئت من الغرب، من طرابلس.
قلت: هل لك عائلة أو أقارب أو مفقودون في هذه المناطق؟
قال: لا، جئت لمد يد العون لإخوتي المنكوبين.
كم وددت وأنا أحمل ميكروفون القناة أن يسجل معي شهادته تلك، لكن بعد إلحاح مني قال بكل أدب وهو يضع يده على صدره: أستسمح، خاطري لا يسمح لي بذلك.
احترمت رغبته، فالرجل لا يريد بهرجة ولا تصويرا، جاء ليساعد فقط.
قبل هذا المشهد بيومين
وصلت إلى مدينة درنة شرقي ليبيا فجرا، لم أجد مهربا من أفترش الأرض الباردة ليلتها، وقد قضيت ساعات لأصل لهذه المدينة المنكوبة. كنت وأنا أتقلب يمينا ويسارا أستحضر من يبيتون في العراء بعد ساعات عصيبة من السيول والرياح العاتية.
كان كل شيء حولي يدل على الخراب، أما الصدمة فكانت أكبر مما تصورت حين وصلت لقلب المدينة.
وصلت إلى هذه النقطة في حدود التاسعة صباحا بتوقيت ليبيا، في منطقة غير بعيدة عن جسرها الذي لم يبقى منه إلا أثره. أما الطرق فمعظمها مغلق والتحويل إلزامي للعبور إلى نقطة الكارثة، ضفاف وادي درنة.
المنطقة المنكوبة
حين وصلت إلى هناك مسحت بسرعة كل الصور التي رسمتها بذهني وأنا أتابع أخبار الكارثة قبل وصولي إلى مدينة درنة، فما أراه على الأرض أشد هولا مما تخيلت.
أربعة رجال بأعمار متفاوتة وبكمامات غير مستوية تماما على وجوههم، يجلسون على صخور متناثرة وسط زقاق زاد الركام من ضيقه.
أسلاك كهرباء عارية تدلت عبر الجدران، وجلبة صنعها رجال الإنقاذ الذين قدموا من دول مختلفة، يمدون يد العون لأهل درنة، وقد رافق بعضهم كلابا مدربة لهذا النوع من المهمات.
اقترب مني أحد الرجال الجالسين حاملا قنينة ماء غير باردة، لكنها كانت مفيدة لمن جف ريقه وهو يصف للمشاهدين منذ وصوله كارثة حلت بمدينة اسمها تردد كثيرا على مسامعي منذ سنوات.
درنة المثخنة بالجراح
في الطريق المؤدي إلى أحياء درنة الشرقية، الأقل تضررا بما جرى، أخبرني السائق بأن هذه المنطقة التي نمر منها كانت معقلا لتنظيم داعش، الذي سيطر على المنطقة في سنوات مضت، كانت تلك جراحا يحتفظ سكان المدينة بكثير منها في أجسادهم، وفي ذاكرتهم، لكن الجرح الذي سببته الكارثة لم يقل سوءا عن تلك الجراح، مئات المنازل المتضررة، الشوارع فقدت ملامحها، وما صمد من المباني يحتاج لإعادة بناء، أما الكارثة الكبرى فكانت جسور المدينة.
انقطعت أوصال درنة، لم يعد لضفتي الوادي شريان يربط أطرافها ببعضها، كان ذلك المشهد كافيا ليشكل صورة ذهنية حول حجم السيول التي جرفت بعض المنازل بمن فيها.
غير بعيد عن مصب الوادي إلى البحر، ظلت أساسات بعض البيوت صامدة لكن سقفها الثاني مدمر بالكامل، حينها فقط أدركت أن حجم السيول لم يكن رحيما بأهل درنة، فما بالك بحجارة مبانيها.
رائحة الموت
كثيرا ما كنت أسمع هذه الكلمة، يلوكها الصحفيون كثيرا في تقاريرهم وكتاباتهم حين يعبرون عن مكان دمرته الحرب أو شهد كارثة، لكن المكان كان فعلا مليئا برائحة الموت.
قطعت الطريق المؤدية من ضفة الوادي قرب الجسر إلى كورنيش المدينة، كان المشهد شبيها بمسرح يتراقص على خشبته الموت، كما تتراقص أمواج البحر المتلاطمة أمام عيني على ضفاف الشاطئ.
غير بعيد من هناك، كانت الجرافات تحاول إزاحة الركام عن شاطئ البحر، لعل فرق الإنقاذ لاسيما الغواصين منهم يستطيعون الغوص لانتشال الجثث.
أما أمل الحياة فكان يتضاءل كلما مر الوقت.
سيارات بعضها فوق بعض، وقد قيل لي من بعض الشهادات إن سيارات جرفتها المياه بمن فيها، محلات تجارية لم يبقى منها سوى لافتة معلقة افتك أحد جانبيها، قد تسقط في أي لحظة، رجل يضع كيسين وحقيبة على الأرض ويجلس بجنبهما، اقتربت إليه فما كاد يجيب على سؤالي عن حاله حتى انهمرت دموعه.
كل هذا جزء يسير من مشاهد علقت بذهني وأنا أروي للعالم قصصا من مشاهداتي التي عشتها في مدينة ليبية، أثخنتها الجراح.