وسط عتمة الوضع المعيشي الذي أفرزته حرب الجيش وقوات الدعم السريع، آثر سودانيون في العاصمة الخرطوم إيقاد بعض الشموع، وذلك بتقاسم ما يملكونه من أطعمة عن طريق طهيها في الساحات العامة داخل الأحياء السكنية في أبهى صيغ التكافل الاجتماعي الذي طالما ما تميز به أهل هذا البلد.
مساع متواضعة يحاول بموجبها السكان العالقون في الخرطوم التغلب على جزء من المصاعب المعيشية في ظل نقص حاد في الإمداد الغذائي بعد توقف كامل للأشغال وغياب الرواتب للعالمين في القطاعين العام والخاص، بينما لم يتسن وصول المساعدات الإنسانية لعدم وجود مسارات آمنة نتيجة احتدام المواجهات العسكرية التي اقتربت من دخول شهرها الثالث.
ورغم موجة النزوح العالية، ما يزال نحو 6 ملايين شخص يعيشون تحت نيران الحرب داخل العاصمة الخرطوم التي يبلغ العدد الكلي لسكانها 8 ملايين شخص وفق آخر تعداد سكاني أجرى في العام 2010، وبحسب الأمم المتحدة تمكن حوالي مليوني شخص من الفرار الى الولايات الإقليمية ودول الجوار.
ويعيش العالقون أوضاع معيشية قاسية بعد أن نفد المخزون الغذائي لغالبية العائلات، وهو ما دفع مجموعات شبابية الى قيادة مبادرة "طهي الساحات" حتى يتمكنوا من تقاسم الكميات القليلة من الطعام فيما بينهم، ومع شح الإمكانات لم يجد المتطوعون غير "البلية العدسية" وهي واحدة من مجموعة البقوليات، لطهيها.
إمكانيات ضعيفة
وتقول ميسم عبد العظيم، إحدى الفتيات الناشطات في هذه المبادرة بمحلية كرري شمالي أم درمان إنهم كانوا يسعون الى إيجاد مواد تموينية للأسر في ظل هذه الظروف الصعبة لكن لم نستطيع الوفاء باحتياجات الجميع في ظل ضعف الإمكانات، فجاءت فكرة طهي البلية العدسية في الساحات كونها تناسب وضعنا المادي.
وتضيف في حديثها لموقع "سكاي نيوز عربية": "في ظل الواقع المظلم فكرنا في البليلة لأنها سوف تجعلنا مطمئنين على أن السكان تناولوا وجبة واحدة في اليوم على الأقل، فهي بخلاف ثمنها الرخيص لها قيمة غذائية عالية، فقد لاحظنا أن معظم الحالات المرضية التي تصل المرافق الصحية هي ملاريا وانيميا خاصة الأطفال".
وتشير إلى أن الوضع في الخرطوم يزداد سواء يوم بعد يوم ليس على الصعيد الأمني فحسب، لكن نقص الغذاء وغالبية الخدمات الأساسية من صحة ومياه وكهرباء وغيرها.
وتعتبر "البليلة العدسية" واحدة أنواع من البقوليات يتم انتاجها من المشاريع المروية في السودان وهي ذات قيمة غذائية عالية لدرجة جعلت بعض الأطباء ينصحون بها مرضاهم خاصة الذين يعانون فقر الدم، ويتم تناولها بالسكر أو الملح كطعام ثانوي، لكن بعد اندلاع الحرب صارت وجبة رئيسية تؤكل مع الخبز.
تجاوز المحنة
ويقول مهند ياسين من سكان حي الرميلة جنوبي الخرطوم لموقع "سكاي نيوز عربية": "بعد أيام من اندلاع الحرب نفد المخزون الغذائي لذلك قررنا طهي الطعام في شوارع الحي وتوزيعه مجانا للسكان. كان كل شخص يأتي لمكان الطبخ بالمواد الغذائية التي يملكها ليتشاركها مع اخوانه وسوف نظل على هذا النهج حتى تجاوز هذه المحنة".
وكان ياسين ورفقاءه في المبادرة يهدفون لضمان عدم تعرض أي شخص في منطقتهم لخطر الجوع وذلك عن طريق تحفيز الجميع على مشاركة ما يملكونه من مواد غذائية، حسب وصفه.
وحظي هذا الحراك بإعجاب السكان في الخرطوم، ويقول بشير محمد علي إن "طهي الطعام خارج المنازل يعتبر واحدة من الاشراقات التي تخفف عنا مأساة الحرب وتبعث الطمأنينة في النفوس".
ويقول بشير وهو أحد سكان ضاحية امبدة غربي العاصمة لموقع "سكاي نيوز عربية" إن "سلوك التكافل ليس بالأمر المستغرب على المجتمع السوداني المشهود له بالكرم على مر العصور، لكن ما تقوم به المجموعات التطوعية من مبادرات تكافلية يفوق كل التصورات، نظرا للإمكانات الضعيفة".