بعد 3 عقود من العمل المتواصل في مهنة السباكة، وجد السوداني محمد عبد الرازق نفسه أمام بطالة لم يسبق أن مرت به في حياته، بعد أن اضطر للبقاء في منزله لأكثر من أسبوعين نتيجة المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع، ليدخل في ضائقة معيشية بالغة نظراَ لانسداد مصدر رزقه الوحيد.
تحولت حياة عبد الرازق وعائلته المكونة من 8 أفراد إلى جحيم بعد أن نفدت المواد الغذائية في بيته وأنفق كل ما يملكه من أموال، ولم يتبق له خيار غير الشروع في بيع الأثاث وبعض المقتنيات المنزلية الخاصة به بغرض شراء الأكل والشرب لأبنائه، وفق ما رواه لموقع "سكاي نيوز عربية".
ويعتبر عبد الرازق واحد من مئات الآلاف من السودانيين الذي يعملون في المهن الهامشية الحرفية، مثل فنيي إصلاح الكهرباء ومنظومات الصرف الصحي وحفر الآبار والمجاري والبناء، تسببت الحرب في إيقاف شغلهم وباتوا في مصير مظلم في ظل شح المساعدات الإنسانية سواء من داخل البلاد أو خارجها.
صُناع الحياة
ويُكنى الحرفيون وهم قطاع عريض في الساحة السودانية بـ"صناع الحياة" نسبة لطبيعة الأعمال التي يقومون بها في إصلاح المقتنيات والأشياء المتعطلة ويتصل عملهم بشكل وثيق بحياة المواطنين، فلولا جهودهم لغرق السكان في بحور من الصرف الصحي والظلام الدامس واختلت حركة الحياة.
ويعتمد الأشخاص العاملين في المهن الحرفية على تسير شؤون حياتهم من خلال الكسب اليومي، أو ما يعرف محلياً بـ"رزق اليوم باليوم" فهي من الاعمال محدودة الدخل ولا تتيح لأصحابها ادخار مبالغ كبيرة تعينهم على تلبية احتياجاتهم المعيشية إذا ما توقف عملهم لأمر طاري مثل اندلاع الحرب الحالية.
وعند اندلاع المواجهات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، كان هارون بشير – وهو عامل بناء، يحتفظ بكميات محدودة من المواد الغذائية وليس لديه أي نقود، حيث كان متوقفاً عن العمل طوال شهر رمضان الذي تتضاءل فيه حركة التشييد العقاري، فكان تفجر الصراع لحظة صادمة له.
أمل مفقود
ويقول بشير لموقع "سكاي نيوز عربية": "فقدت الآمل تماما عندما رأيت نيران الحرب ودخانها يغطي سماء العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى، حيث أيقنت أن هذا الصراع سيطول وسوف تتوقف معه حياتنا كشرائح اجتماعية ضعيفة، فإن لم نموت برصاص الصراع، يقتلنا الجوع فنحن نواجه هذا المصير حالياً".
ومع تطاول أمد الصراع، حاول بعض الحرفيين التوجه الى الأسواق القريب من سكنهم في مسعى لاستئناف رحلة الكسب الحلال وتخفيف المعاناة المعيشية عن كاهل عائلاتهم، لكنهم اصطدموا بعزوف جماعي للزبائن فليس هناك أي شخص يفكر في أي شيء في هذا التوقيف العصيب غير توفير الغذاء.
ويقول دفع الله الحاج وهو شاب سوداني يعمل في مجال النقاشة: "توقفت حياتنا بالكامل نتيجة هذا الصراع المسلح، وبعد أن اشتدت علينا المعاناة المعيشية ذهبت إلى محطة تجمع الحرفيين في سوق ليبيا غربي أم درمان وجلست إلى جانبهم طوال اليوم ولم يأت أي شخص يطلب عمالاً فعدت إلى منزلي دون أن نكسب أي شيء".
ويضيف الحاج لموقع "سكاي نيوز عربية": "لا أحد يفكر في إجراء صيانة منزلية، وحتى أعمال البناء للعقارات الجديدة توقفت تماماً، فجميع السودانيين بمختلف مستوياتهم المادية والاجتماعية ينصب اهتمامهم في توفير الأكل والشرب لعائلاتهم، لذلك لا نستطيع العمل في هذه الظروف، فنحن لسنا مثل المهن الهامشية الأخرى التي من الممكن أن يتحرك أصحابها في مثل هذه الأوضاع".
مأساة تراجيدية
وتزداد الأوضاع الإنسانية سوءاً يوما بعد يوم مع استمرار المواجهات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع في ظل شح في العون الإنساني الخارجي باستثناء بعض القوافل الجوية، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بصورة كبيرة وسط ندرة في بعض المواد الغذائية وهو ما يفاقم مأساة السكان خاصة العاملين في المهن الهامشية.
وبعد نفاد مخزونه الغذائي وما لديه من مبالغ محدودة، لم يجد عبد الرازق سبيل غير عرض طقم جلوس في منزله للبيع بغرض توفير بعض المستلزمات الحياتية، ليروي فصلا من تراجيديا المأساة التي سببتها الحرب على مجمل السودانيين، والعاملين في المهن الهامشية على وجه الخصوص كونهم يعتبرون من الفئات الأضعف في المجتمع السوداني.
ويقول عبد الرازق وهو عامل في مهنة السباكة لموقع "سكاي نيوز عربية" إنه "سيستمر في بيع أثاثه المنزلي من أجل توفير الغذاء لعائلته لأنه لم يملك خيار بخلاف ذلك، ويأمل في أن يجد مشتريين لأن عملية البيع نفسها لم تكن سهلة والتي ربما تستغرق وقتا طويلا حتى لو قام بعرض هذه المقتنيات بأسعار رخيصة مقارنة بقيمتها الفعلية.