لا تقتصر معاناة الشاب نورس برّو على آلام المرض العضال، الذي أصيب به منذ ما يقارب العامين، ليزيد فقدان الدواء في سوريا، على أوجاعه الجسدية تعباً فكرياً في كيفية الحصول على الجزء الآخر من امل التعافي.
يروي برّو، الإعلامي السوري المقيم في دمشق والمصاب بسرطان الدم "اللوكيميا" لموقع "سكاي نيوز عربية" مأساته المتعلقة بتأمين الدواء بشكل شخصي، بعد توقف المشفى الحكومي عن تأمينه.
ويقول: "للأسف الدواء اللازم للعلاج لم يعد متوفراً، ما يجبرني على الاستعانة بالأسواق الخارجية لتأمينها، بأسعار خيالية ، وهو ما يجعل الحصول عليها بشكل دائم امراً صعباً للغاية، ليس بسبب كلفته الباهظة جداً فقط، بل لصعوبات إيصاله إلى الداخل أيضاً".
لكن، المعاناة بالنسبة لبرّو، لا تقف عند عدم توفر الدواء فقط، بل تمتد لتشمل أيضاً عدم توفر التحليل اللازم لتحديد نسبة إصابته ومراقبة استجابته للمعالجة وعليه تحديد النسب والكميات اللازمة للعلاج بالجرعة الدوائية.
اكتفاء دوائي انتهى
لطالما اعتبرت الصناعات الدوائية من أهم القطاعات الصناعية في سوريا، ليس لجهة تحقيق الاكتفاء الدوائي للسوريين بأسعار زهيدة فحسب، بل لرفدها الاقتصاد السوري بالعملة الصعبة، عن طريق التصدير، باستغلال قدرته العالية على منافسة المصادر المثيلة نتيجة لأسعاره المناسبة مقارنة مع جودته.
لكن، هذا القطاع أيضا، كمعظم القطاعات الإنتاجية الأخرى، لم تسلم من تبعات الحرب المدمرة في البلاد، التي تحوّلت من دولة مكتفية محليا بشكل كبير، ومصدّرة للعديد من الأصناف، إلى بلد يستورد حتى أدوية "مضادات الالتهاب" في الكثير من الأحيان.
كل ذلك حصل في أقل من نصف عقد من الزمن، حيث يؤكد برو أن الوضع لم يكن بهذه الدرجة من السوء قبل سنتين فقد، حين اكتشاف إصابته بالمرض، فقد كانت الجهات الحكومية مستمرة في تأمين البدائل على الأقل في حال استحالة تأمين الدواء الأساسي.
ويشرح برو أن "مستشفى الأمراض السرطانية (البيروني) في دمشق تحاول قدر الإمكان تأمين بدائل، لكن هذه البدائل بطبيعة الأحوال لا تعطي النتائج المرجوة، ما يزيد من تأثيرات المرض علي شخصياً".
قصص متشابهة
في السياق ذاته، تروي إحدى المصابات بمرض عصبي، معاناتها الشديدة في الحصول على الدواء اللازم لعلاجها، بعد انقطاع الصنف الموصى به، وعدم توفر البدائل.
وتؤكد المرأة الأربعينية، لموقع "سكاي نيوز عربية"، مطالبة عدم الكشف عن أسمها، أنها على استعداد لدفع أضعاف ثمنه مقابل إيجاده أو بديل له، حيث لم تجد نفعاً محاولات بحثها لا هي ولا أولادها الذين توزعوا على صيدليات العاصمة.
تتشابه قصص المعاناة، لتختلف في نوع الدواء المفقود، في أزمة لم تطل المواطن السوري فقط، على الرغم من كونه المتضرر الأكبر، بل كان للصيادلة أيضاً نصيباً من هذه المعاناة.
وتمثلت المعاناة، حسبما يشرح الصيدلي محمد العاقل، في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية" في قيام مستودعات بيع الأدوية، بالزام الصيدليات على شراء أدوية غير مطلوبة كشرط لتزويدهم بالأصناف الأكثر طلباً ولزاماً، الذي يسبب كساد بعض الادوية على رفوف الصيدليات، والتسبب في خسائر مادية لها.
ويضيف العاقل بأن المشاكل الاخرى تتمثل بإيقاف بيع العديد من الأصناف وعدم وجود بدائل لها، إضافة إلى انقسام سوق الدواء إلى قسمين: سوق نظامية لا يتوفر فيها كميات الدواء اللازمة لتغطية الطلب، وسوق سوداء يتوفر فيها جميع الأصناف ولكن بأسعار مضاعفة، ما يضع الصيدلي في مواجهة مع المريض الذي يتهمهم بالجشع والاحتكار.
ويحمّل العاقل وزارة الصحة مسؤولية الأزمة بسبب عدم اعتمادها المرونة في آليات التسعير، بحيث تصبح الأسعار متناسبة مع التكلفة وعدم وجود الرقابة الكافية على المعامل، التي كانت بحسب العاقل السبب في ظهور السوق السوداء.
واستهجن عدم وجود مندوب من الصيادلة في لجنة تسعير الدواء مقابل وجود مندوبين من وزارات الاقتصاد والصحة، الأمر الذي يخلق فجوة بين نقابة الصيادلة ووزارة الصحة.
في المقابل، تتعالى أصوات أصحاب المعامل للمطالبة بإيجاد حل للخسائر التي يتكبّدونها. وتعود مشكلة فقدان العديد من أصناف الأدوية لقيام المعامل بتخفيف انتاجها على خلفية مشاكل تتعلق بتضاعف أسعار المواد الاولية بشكل كبير عالمياً، إضافة إلى ارتفاع كلفتها بسبب تدهور قيمة الليرة السورية، مقابل عدم مواكبة الأسعار المحددة من قبل الوزارات المعنية لهذا الاختلاف في السعر.
رأي أصحاب المعامل
على الرغم من إقرار زيادتين على أسعار الدواء العام الماضي، إلا أن التوازن بين سعر التكلفة والمبيع لا يزال مفقوداً، وفقاً لأصحاب المعامل، الذين يدعمون مطالبهم برفع أسعار الأدوية بالمقارنة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية وكل ما يستهلكه المواطن من مواد أخرى مع ارتفاع سعر الدولار.
كما أدت العقوبات الخارجية المفروضة على سوريا، التي تعيق الحصول على الكثير من المواد الأولية اللازمة لصناعة الدواء، إضافة إلى قيام الشركات الأجنبية بسحب امتيازاتها الممنوحة إلى 58 شركة دواء سورية، إلى تفاقم المشكلة.
بالتزامن مع انقطاع الدواء وندرته في الأسواق، برزت ظاهرة تهريب الدواء الى الخارج وعلى وجه الخصوص لبنان والعراق، فأصبح شائعاً وجود العديد من الأصناف "المقطوعة" في السوق المحلية، على الرغم من كونها صناعة سورية، مقابل توفّرها بكثرة في الدول المجاورة.
وتراجعت صادرات المعامل الدوائية بفعل العقوبات الخارجية لتسجل ما نسبته 10 بالمئة فقط من اجمالي صادراتها المسجلة في العام 2010، حيث تراجع عدد الدول المستوردة للدواء السوري من نحو 44 دولة قبل 2011 الى حوالي 10 دول حالياً فقط، بخسارة تقدر سنوياً بنحو 200 مليون دولار.