قررت فرنسا فتح أرشيف التحقيقات القضائية الخاص بحرب الجزائر (1954-1962) قبل 15 عاما من المهلة القانونية وبعد نحو 60 عاما على الاستقلال. لفتة جديدة من باريس لصالح المصالحة مع الجزائر التي بدأها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أكثر من 3 سنوات.
ويأتي هذا الإعلان على لسان وزيرة الثقافة، روزلين باشلو، مباشرة بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، للجزائر العاصمة وسط خلافات بين البلدين في محاولة لاستئناف الحوار.
وصرحت الوزيرة على قناة "بي إف إم" التلفزيونية: "لدينا أشياء نعيد بناءها مع الجزائر، لا يمكن إعادة بنائها إلا على أساس الحقيقة".
خطوات فرنسية مهمة
وفي هذا الشأن، يقول رئيس معهد الاستشراف والأمن في أوروبا، إيمانويل ديبوي، في تصريح "لموقع سكاي نيوزعربية": "يبدو من هذا القرار أن التبادل كان غير متاح من قبل، وهو مستوحى من توصيات تقرير المؤرخ بنجامين ستورا حول قضية الذاكرة بين الجزائر وفرنسا والذي دعا إلى فتح وتبادل الأرشيفات الاستعمارية الحساسة بين الجزائريين والفرنسيين، المحفوظة في الأرشيف الوطني. كما أنه استجاب جزئيًا لطلب أكاديميين يشكون من عقبات أمام حرية الاطلاع على الوثائق التاريخية ويطالبون بفتح مشترك لهذا الأرشيف مبني على التعاون بين الطرفين".
كما يعتبر المحلل السياسي أن هذا القرار لا يدخل في إطار التوصيات التي يجب العمل بها لسير "مصالحة الذاكرة" بل هو تعويض عن أزمة ديبلوماسية نادرة الحدوث بين البلدين.
ويتابع: "سبق وأن قام الرئيس الفرنسي بعدة خطوات إيجابية في هذا الملف، من بينها اعترافه ضمنيا بالمسؤولية الفرنسية عن مذابح 17أكتوبر 1961، وتقديمه اعتذارا رسميا للحركيين، وستشهد من المؤكد الشهور المقبلة على خطوات أخرى له، مثلا خلال الاحتفال بالذكرى الستين لاتفاقات إيفيان في 19 مارس 2022 وغيرها من التواريخ المهمة. لكن ما يقلق هو أن الجانب الجزائري لم يقم لحد الساعة بأي خطوة في هذا الاتجاه".
وردا على سؤال حول تداعيات الـتأكيد المستقبلي على أعمال التعذيب التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر، قالت باشلو: "من مصلحة البلاد الاعتراف بها. لا نبني رواية وطنية على كذبة".
لكن ديبوي يرى أن هذا القرار لا يطرح أي تخوف لأنه ليس الأول من نوعه، فقد سبق وأن اعترفت فرنسا باغتيال المحامي علي بومنجل على يد الجيش الفرنسي عام 1957، وكذلك اعترفت بأن اختفاء عالم الرياضيات موريس أودين في الجزائر العاصمة عام 1957 كان خطأ الجيش الفرنسي.
وتذكر الوزيرة الفرنسية أنه "عندما قدم ماكرون العدالة في قضية أودين، كان بذلك قد وضع فرنسا في مواجهة الحقيقة"، مضيفة أنه "لا ينبغي أبدًا أن يخاف المرء من الحقيقة، يجب على المرء أن يضعها في سياقها".
وبالتالي، ووفقا للمحلل السياسي، "السؤال المطروح هو كيف ستتعامل الجزائر مع فتح هذا الأرشيف؟ لأنه في الأصل ليسا فعلا سياسيا، بل هو خطوة تسمح للمؤرخين بدراسة و تقديم ذاكرة مشتركة، لكن ما نلاحظه أنه تم تسييس قراءة هذه الوثائق".
أسرار الأرشيف
في المقابل، هل سيسمح رفع السرية عن الأرشيف بمعرفة المزيد عن جوانب الحرب في الجزائر؟ لا شيء مؤكد بحسب رئيس جمعية "جوزيت وموريس. الاعتراف بجرائم الاستعمار"، بيير مانسات، في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية".
ويشرح أنه إذا كان تاريخ الحرب الجزائرية معروفًا إلى حد كبير، فهناك العديد من المناطق الرمادية التي يجب توضحيها. "فعشرات الآلاف من الأشخاص اختفوا أثناء الحرب الجزائرية. العديد من العائلات لا تعرف الظروف التي تم فيها إعدام أحبائهم أو دفنهم. كما يمكن أن تكشف الوثائق عن الاغتيالات التي نفذها الجيش الفرنسي في حق السياسيين وأفراد جبهة التحرير خصوصا أنها ستمتد إلى غاية عام 1966".
ويتابع: "هذه ملفات مرتبطة كذلك بمنظمة الجيش السري، وتتعلق بالقضايا التي خضعت لتحقيق من قبل الشرطة وعرضت على المحاكم".
لا زيارات رسمية في الأفق
ورغم تصريح وزيرة الثقافة وزيارة رئيس الدبلوماسية الفرنسية جان إيف لودريان إلى الجزائر وتعبيره بدوره في ندوة صحفية بعد لقائه الرئيس عبد المجيد تبون عن أمله في أن يؤدي الحوار الذي أعيد إطلاقه إلى استئناف التبادلات السياسية بين الحكومتين في عام 2022، يستبعد رئيس معهد الاستشراف والأمن في أوروبا أن يقوم الرئيس الفرنسي بزيارة رسمية إلى الجزائر لأنه سينشغل ابتداء من يناير المقبل بالمذكرة الأوروبية نظرا لتولي فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي. وحينها تصريحات ماكرون لن تمثل فرنسا وحدها بل كل الدول الشريكة".
أما عن زيارة الرئيس الجزائري للإليزيه، فيؤكد أنها صعبة لأن مسألة عدم استعداد الجزائر لاستعادة رعاياها الذين هم في وضع غير نظامي في فرنسا لاتزال قائمة.
من جانبه يعتبر إبراهيم أومنصور، محلل شمال أفريقيا في المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والاستراتيجية أن "تدهور العلاقات بين المغرب والجزائر، والوضع في الساحل قد يعرقل نوعا ما إصلاح العلاقة مع فرنسا. كما أن الجزائر لا تطالب فقط بفتح الأرشيف بل باسترجاعه أيضا وهذا يزيد الأمر تعقيدا".
لذلك لا ينف أومنصور أن عملية الصلح بشكل كامل لن تتم إلا عبر سنوات، بالإضافة إلى ضوروة فتح الأرشيف في وجه المؤرخين والسماح لهم بالتحقق والدراسة بكل حرية.