استطاع مهاجرون مغاربة أن يندمجوا في فرنسا، طيلة عقود، على غرار دول أخرى بأوروبا، فأنجبوا هناك جيلا تلو الآخر، ونالوا الجنسية، لكن حلم العودة إلى "الوطن الأم" من أجل العمل الاستقرار ظل يراود كثيرين.
وبحسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط، وهيئة الإحصاء الرسمية في البلاد، بين 2018 و2019، فإن أكثر من خمسة ملايين مغربي يقيمون في الخارج وأكثر من 80 في المئة منهم يعيشون في أوروبا.
ويولي المغرب اهتماما كبيرا للجالية، فينظم معارض دولية ويعلن مبادرات لأجل تلبية احتياجات وتطلعات المهاجرين في مختلف المجالات، وذلك لأجل حفظ الأواصر التي تربطهم بالوطن.
محمد الدويب...حلم وتحقق
يلعب الآباء، في بعض الأحيان، دورا كبيرا في تمسك أبنائهم بالهوية المغربية، وهذا هو حال محمد الدويب، فرنسي المنشأ ومغربي الأصل، إذ يؤكد لموقع "سكاي نيوز عربية"، أنه كان دائم التردد على المغرب مع أسرته الصغيرة وشديد التعلق بعائلته.
ويقول بلهجة مغربية، "في كل سنة، كنت أنتظر بشوق كبير زيارة عائلتي الكبيرة في مدينة مكناس. كنا نذهب في الإجازات الصيفية وأحيانا حتى في إجازات رأس السنة".
اشتغل محمد في مجال التجارة بباريس في سن مبكرة، وتعلم اللغة العربية بشكل ذاتي وعمره لا يتعدى 21 عاما، فيما ظلت تراوده فكرة الذهاب إلى المغرب والعيش وسط أحبابه، وهو حلم حققه بمجرد أن بلغ عامه الخامسة والعشرين.
وقال محمد "كان دخولي بشكل نهائي إلى المغرب غريبا نوعا ما، إذ بعد شهر على وصولي عام 2009، تزوجت وفتحت متجرا لبيع الملابس الجاهزة ورزقت بطفلة في عامي الأول. كانت كل الأمور تشير إلى أنني اخترت الطريق الصواب". هكذا يصرح محمد ضاحكا.
ويؤكد محمد أنه لم يحتج إلى فترة اندماج أو تأقلم. ففي فترة قصيرة، أصبح يتقن لغة السوق ويفكر بعقلية التاجر المغربي. فتطورت تجارته واشترى محلا جديدا. ورغم النجاح الذي حققه إلا أنه سئم المجال فقرر تغيير الوجهة.
واستطرد "لم تكن البداية الجديدة أقل غرابة من سابقتها، فبعد أشهر قليلة من بيعي المحل وعملي بشكل مؤقت في باريس، حل وباء كورونا وأقفلت الحدود وأنا بعيد عن أسرتي. وبمجرد إعادة فتحها عدت وأنا على يقين بأنني لن أغادر موطني من جديد".
فتح محمد مكتبا لتأجير السيارات متحديا الوباء والإقفال العام. لكنه بفضل "صبره" وعزيمته" خلق الاستثناء، وحقق النجاح الذي انتظره "لم تراودني فكرة العودة إلى فرنسا أبدا، كما أنني لا أنوي أن أبعث أبنائي للدراسة رغم أنهم يحملون الجنسية الفرنسية. أرى أن جودة الحياة في المغرب تناسب كل تطلعاتي. بعيدة عن روتين باريس وأرقها، وأبنائي يعيشون بين ذويهم".
سامية بن جلون...خوف من "ازدواجية الهوية"
انتقلت أسرة سامية إلى فرنسا، نظرا لعمل الأب، لكن أمها كانت تصر على أن يتحدث أبناؤها باللهجة المغربية في البيت. وعندما وصلوا إلى سن المراهقة، و"خوفا" عليهم من غلبة التربية والثقافة الفرنسية التي قد تمس المعتقدات والقيم المغربية، قرر الأبوان أن يعودا بأبنائهم إلى الوطن في هذا المرحلة "الحساسة" من حياتهم.
عند نيل شهادة البكالوريا، قررت سامية العودة إلى فرنسا لإتمام دراساتها العليا وسنها لا يتعدى 17 عاما. وتقول في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية" إنها لم تخف أبدا هويتها وثقافتها المزدوجتين عن أصدقائها الفرنسيين.
وتابعت "لا يمكن أن تضيع إذا كنت تعرف من أين أتيت وإلى أين أنت ذاهب. طالما كنت فخورة بأصولي المغربية وبازدواجية تربيتي"، وتتابع "حصلت على شهادة من الدولة الفرنسية في الهندسة المعمارية، وانطلقت مسيرتي المهنية في فرنسا، ثم تزوجت بمغربي ورزقت بطفلة".
وهنا تكرر نفس السيناريو، الوحدة والخوف من تبعات التربية المزدوجة لطفلتها، والحاجة لسند العائلة الكبيرة، كلها أسباب دفعتها رفقة زوجها لاتخاذ قرار الرجوع إلى المغرب. لم تواجه سامية أي صعوبة في الحصول على فرصة عمل هي ورفيق دربها، فكانت البداية سهلة.
وبعد سنوات قليلة، اتجهت سامية إلى تأسيس شركتها الخاصة في مجال هندسة غرف الأطفال "أظن أن المغرب من بين البلدان القليلة التي تفسح المجال لريادة الأعمال. وبفضل هذه الميزة، استطعت فتح مقاولة خاصة بأحذية الأطفال رفقة شريكتي هند بنيس. ولأن منتوجنا موجه للتصدير، نحاول الارتقاء بعمل الحرفيين التقليدين المغاربة في المنتوج الجلدي إلى المستوى والمعايير الأوروبية".
لا تنفي المقاولة الشابة أن أسرتها قدمت لها يد العون بشكل كبير في مرحلة الاندماج والتكيف. لكنها في المقابل، تؤكد أنها شكلت صداقات في المغرب بكل سلاسة، كما أن الحرفيين الذين تتعامل معهم يتميزون بحس من الإنسانية والصدق في العمل، جعلها تكون في منأى عن أي مشاكل أو صعوبات.
وديع دادا..."الصدفة خير من ألف ميعاد"
درس وديع دادا، القانون لكن حلم الصحافة لم يغادر فكره، فبعد ثلاث محاولات فاشلة في مباراة الولوج إلى معهد الصحافة في مدينة غرونوبل الفرنسية. استطاع في المحاولة الرابعة، تحقيق حلمه وجمع بين القانون والإعلام وحصل على شهادة في المجالين. وبموازاة ذلك كان يعمل في جريدة محلية لصقل موهبته ومعارفه.
لم يظن وديع أن هذا الحلم الذي راوده منذ أن كان عمره سبع سنوات سيقوده إلى المغرب، وهو الذي كان يرفض الاستقرار فيه ولم يكن عنده الوطن الأم سوى فترة من إجازة الصيف.
ووفقا تصريح وديع دادا لموقع "سكاي نيوز عربية"، فقد بعث بعشرات طلبات التدريب بعد تخرجه إلى مختلف وسائل الإعلام في فرنسا إلى جانب القناة الثانية في المغرب. لكن الرد الوحيد على طلبه كان من الضفة الأخرى "كنت أستبعد ذهابي للمغرب لأنني كنت أجهل الكثير عنه، كما أنني لم أكن أتقن اللهجة جيدا، وأميل أكثر إلى ما تقدمه وسائل الإعلام الفرنسية".
في الأصل، لم تكن مدة التدريب تتجاوز أربعة أشهر، لكن حضور الخريج الجديد وعمله الجاد لفت أنظار المهنيين والمسؤولين في القناة "كنت متعطشا للعمل في مجال أعشقه، كما أن بداية التدريب صادف وفاة أخي، فكان العمل بتفان هو وسيلتي الوحيدة للنسيان وتخطي تلك المرحلة الصعبة من حياتي. وقبل انتهاء التدريب سجلت محاولة لتقديم الأخبار لأرفقها بسيرتي الذاتية أثناء بحثي عن عمل في فرنسا. لم أنو أنها ستكون مفتاح بقائي في القناة وفي المغرب".
تقديم بفرنسية ممتازة وشغف بالمهنة وجدية في العمل إلى جانب حاجة القناة بمقدمين جدد، عوامل دفع مديرة القناة لتقترح عليه العمل كمقدم أخبار "كنت أظن أنني سأعمل لسنتين أو ثلاث ثم أعود لفرنسا، لكن وبعد سبع سنوات، اكتشفت أن مكاني في المغرب، خصوصا بعد أن صنعت سمعة واسما وكونت أسرة وأنجبت أطفالا".
عانى وديع في بداية مشواره في المغرب من الشوق لعائلته، لكنه لم يحس يوما بأنه غريب عن الثقافة المغربية لأنه تشبع بها طيلة مشوار حياته "كنا نحاول التحدث باللهجة المغربية في البيت، وكان أبي يزرع فينا الوقار والأدب والحياء كما هو متعارف عليه في التربية بالمغرب".