لطالما قدم راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تونس، نفسه باعتباره النسخة الأذكى والأكثر حكمة بين قيادات التنظيم الدولي للإخوان، للدرجة التي جعلته يصفهم جميعا بالغباء في أول اجتماع أعقب ثورة 30 يونيو في مصر واستضافته العاصمة التركية اسطنبول عام 2014، وفقا للتسريبات التي خرجت عن الاجتماع في ذاك التوقيت.
وعلى النقيض من النصائح التي طالما أسداها الغنوشي لمكونات العملية السياسية، في البلدان العربية وخاصة لأبناء تنظيمه، بضرورة التحلي بالكفاءة والقدرة على تجاوز الأزمات والمرونة السياسية، كانت السنوات الأخيرة من رئاسته لحركة النهضة مليئة بالأزمات الحالكة سواء على مستوى الداخل، والصراع المستميت بينه وقيادات الحركة على رئاستها، أدت لانشقاق عبد الفتاح مورو أحد أبرز قادتها، أو على مستوى التعامل السياسي ما بين النهضة ومكونات العملية السياسية في البلاد.
وعلى مدار سنوات ترأس فيها الغنوشي برلمان الشعب لم يمر يوما بدون أزمة مع أحد القوى السياسية، الأمر الذي بلغ ذروته عقب اختلاق صراع مع الرئيس التونسي قيس سعيد والمساعي الحثيثة من جانب الحركة لسحب الصلاحيات الدستورية من الرئاسة وعزل "سعيد"، فضلا عن احتدام الأزمات مع القوى السياسية والحزبية ومحولة اختراق وتطويع المؤسسات وفي مقدمتها القضائية.
20 عاما في لندن
بعد ثورة عام 2011، عاد راشد الغنوشي إلى تونس بعد 20 عاما قضاها في لندن، هرباً من الاعتقل في بلاده، وباستغلال مناخ الحريات بالتزامن مع التغيرات السياسية سارع إلى ترخيص حزب النهضة، الذي أسسه مع رفاقه عام 1981، تحت مسمي حركة الاتجاه الاسلامي، ثم النهضة لاحقاً، لكنه وفي ذلك التوقيت كان مثيراً لقلق السلطات في البلاد، وتم القبض عليه واتهم بتأجيج الاضطرابات وحكم عليه بالسجن لمدة 11 عاماـ ثم بالأشغال الشاقة المؤبدة عام 1987، إلا أن تم الإفراج عنه بعدها بعام حيث تولى الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي الحكم في البلاد.
لكن شهر العسل لم يدم طويلا فبعد حصول حركة النهضة على نحو 17 بالمئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية لسنة 1989، بدأت الصدامات مع النظام.
وفي نهاية 1989 غادر راشد الغنوشي تونس الى الجزائر ثم الى لندن في 1991، بعد أن حكمت عليه المحكمة العسكرية بتونس مع قيادات إسلامية اخرى بالسجن المؤبد بتهمة "التآمر" ضد رئيس الدولة.
ومن مجرد مدرس إلى واحد من أهم رجال المال والسياسية في تونس، مر الغنوشي بعدة مراحل، حيث ولد راشد الغنوشي واسمه الحقيقي راشد الخريجي في 22 يونيو 1941 بمدينة الحامة من ولاية قابس (جنوب شرق)، في عائلة متواضعة تعمل في الزراعة، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارس الحامة، وبعدها تحول للعاصمة أين التحق بجامع الزيتونة لمواصلة تعليمه.
وسافر راشد الغنوشي سنة 1964 إلى مصر ثم سوريا حيث حصل سنة 1968 على الإجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، ثم سافر إلى باريس التي أمضى فيها فترة قصيرة ليعود نهاية الستينات إلى تونس، ثم عمل أستاذا للفلسفة في مدارس ثانوية بالعاصمة تونس.
وعند عودته الى تونس "اكتشف الغنوشي مدى "التغريب" الذي أصبحت عليه البلاد"، حسبما قال في سيرته الذاتبة الرسمية، في إشارة الى النهج العلماني الذي انتهجه الرئيس الحبيب بورقيبة الذي أعطى المرأة حقوقا فريدة من نوعها في العالم العربي ومنع تعدد الزوجات.
بدأ نشاطه الدعوي في هذه المدارس، وفي 1972 أسس مع بعض رفاقه "الجماعة الإسلامية" التي غيرت اسمها في 1981 إلى "حركة الاتجاه الاسلامي" ثم إلى "حركة النهضة في 1982.
وبحسب الغنوشي، ركزت الحركة في عملها على الدروس الوعظية والحلقات في المساجد وتكثيف المحاضرات في المعاهد الثانوية والجامعات،كما ركزت الدعوة في اوساط النساء لإقناعهن بارتداء الحجاب وتبني الفكر الإسلامي.
تلميع صورة قاتمة
وبعد سنوات من الملاحقات الأمنية والسجون، والعمل السري، وأعمال حرق وتفجير نفذتها في الثمانينات والتسعينات، خرجت الحركة بعد الثورة بشكل جديد.
فبعد عودته إلى تونس، عمل الغنوشي الذي اعتبر لفترة طويلة متشددا، على محو كل أثر للتطرف الاسلامي في خطابه، وأصبح يقدم نفسه على أنه معتدل يقود حزبا شبيها بحزب العدالة والتنمية في تركيا.
لكن ذلك لم يجد مساحة مقنعة وسط ممارسات كانت عكس ذلك.
فالعديد من الأوساط السياسية في تونس تحمل راشد الغنوشي المسؤولية عن صعود تيار السلفية الجهادية والإرهاب، خصوصا بعدما أدلى بتصريح صحافي في 2012 قال فيه إن "معظم السلفيين يبشرون بثقافة ولا يهددون الأمن" قبل أن يعلن لاحقاً أن "هؤلاء الناس يمثلون خطراً ليس على حركة النهضة فقط بل على الحريات العامة.
كما أن حركة النهضة التي يتزعمها، لا تزال في مرمى الاتهام والشبهة في ملف اغتيال محمد البراهمي وشكري بلعيد، خلال حكمها للبلاد عام 2013.
كان آخر ظهور للغنوشي أمام أبواب البرلمان في جوف الليل بعد أن أصدر الرئيس قيس سعيد قرارا مساء الأحد، بتجميد عمل البرلمان وإعفاء الحكومة ضمن عدد من القرارات التي تدخل ضمن صلاحياته الدستورية للتدخل في حالة وصول البلاد إلى مرحلة تهدد السلم وأمنها الاجتماعي .