أشعلت سياسة تحرير أسعار الوقود التي بدأت الحكومة السودانية الخميس تنفيذها احتجاجات وجدل كبيرين في الشارع السوداني، حيث خرجت على الفور مظاهرات مناهضة وأغلق المحتجون معظم الشوارع الرئيسية بالحجارة مشعلين النيران في إطارات السيارات.
ورفعت السياسة الجديدة أسعار المحروقات بنسبة تقارب المئة في المئة، وحددت سعر لتر البنزين بواقع 290 جنيها سودانيا (الدولار يعادل 430 جنيها)، وسعر لتر الغازولين بواقع 285 جنيها.
ويعيش السودان صعوبات اقتصادية بالغة وسط توقعات بارتفاع معدلات التضخم إلى أكثر من 500 بالمئة وخروج العديد من الأعمال عن دائرة الإنتاج. ويعاني من ارتفاع الديون الخارجية إلى أكثر من 60 مليار دولار وانهيار معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية بسبب الفساد والسياسات التي اتبعت خلال فترة حكم المخلوع عمر البشير التي استمرت 30 عاما.
مخاوف انفلات
ورفع المئات من المحتجين الذين خرجوا إلى شوارع العاصمة الخرطوم والعديد من مدن السودان الأخرى شعارات تندد بسياسة الحكومة الاقتصادية معبرين عن خيبة أملهم من عدم تحقيق أهداف الثورة بعد مرور عامين من الإطاحة بالنظام السابق.
وتقول الحكومة الانتقالية إنها تدرك صعوبة القرار لكنها تشير إلى أنه لا مناص منه. وأوضح وزير المالية جبريل إبراهيم خلال مؤتمر صحفي الأربعاء "سياسة الدعم خاطئة ولا بد من استئصالها واتخذنا تدابير لدعم الأسر الفقيرة بصورة مباشرة".
لكن مراقبين يرون أن الحكومة الانتقالية الحالية التي تسلمت السلطة في أعقاب سقوط البشير في أبريل 2019 لم تنجح في معالجة الأزمات المعيشية الطاحنة التي تواجه المواطن العادي مما تسبب في موجة الغضب الحالية.
وتسود مخاوف جدية من أن تؤدي موجة الاحتجاجات الحالية إلى فوضى عارمة في ظل حالة الهشاشة الأمنية التي تعيشها البلاد. ودعت أصوات عديدة للهدوء وعدم إتاحة الفرصة لعناصر النظام السابق للتسلل وضرب الثورة من خلال إحداث فراغ سياسي يؤدي للفوضى. لكن وليد علي المتحدث باسم تجمع المهنيين؛ قال لموقع سكاي نيوز عربية إن الشارع يعرف ما يريد وقادر على إحداث التغيير، واصفا الحديث عن فراغ سياسي بـ "الفزاعة" التي تشابه تلك التي كان يستخدمها نظام المخلوع البشير لإخماد الاحتجاجات.
وأكد علي أن لدى تجمع المهنيين وقوى الثورة برنامجا وطنيا واضح يستصحب كافة التطورات ويعالج الأخطاء التي ارتكبت في مرحلة ما بعد الثورة والتي أدت إلى ما وصلت إليه البلاد من تدهور "مريع".
تبريرات وانتقادات
وأوضح بيان حكومي أن سياسة تحرير الوقود ستسهم في إزالة العديد من التشوهات في الاقتصاد حيث تنفق الدولة أكثر من مليار دولار سنويا كدعم للمحروقات، إلا أن الخبير الاقتصادي صديق كبلو اعتبر أن السياسات التي "تساوي المواطنين دون مراعاة دخلهم أو أوضاعهم" سياسات خاطئة وتتجاهل حقيقة أن العبء الأكبر لتحرير المحروقات يقع على عاتق الفقراء.
ويقول كبلو لموقع سكاي نيوز عربية: "كان على الحكومة اتباع طرق أخرى للعمل على استقرار أسعار الصرف وزيادة العائدات أهمها التحكم في صادرات الذهب والسلع الزراعية الرئيسية بدلا من تركها في يد القطاع الخاص".
ويؤكد كبلو أن سياسة تحرير أسعار الوقود تحدث ربكة كبيرة في الشارع السوداني وستؤدي إلى انفلات في أسعار الصرف. ويبدي كبلو استغرابه من إعطاء حق استيراد المواد البترولية لشركات تجارية في ظل وجود المؤسسة العامة للنفط التي تمتلك الخبرة والبنية التحتية والمقومات التي تؤهلها للقيام بالمهمة والاستفادة من هامش أرباحها في زيادة عائدات الدولة.
ووفقا لكبلو فإن أزمة السودان ليست في شح الموارد بل في طريقة إدارة الموارد المتاحة بطريقة سليمة، موضحا: "السودان يمتلك موارد زراعية ومعدنية ضخمة...هنالك مشروعات عملاقة مثل مشروع الجزيرة الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل إضافة إلى مشروع زادنا الذي استولت عليه القوات المسلحة بطرق غير قانونية وهو ملك للشعب لأن تمويله تم من موارد وزارة المالية".
ويرى صدقي أن هنالك عراقيل حقيقية توضع أمام البنك المركزي تجعله غير قادر على تطبيق سياسات فاعلة بدليل عدم قدرته حتى الآن على تنفيذ سياسة التحكم في صادرات الذهب الذي يمكن أن تدر عائداته جزءا كبيرا من النقد الأجنبي المطلوب لاستيراد السلع الأساسية كالوقود والمشتقات النفطية والقمح وغيرها إضافة إلى تمويل عمليات إصلاح الكهرباء والقطاعات الخدمية والإنتاجية.
آثار سلبية
يرى محمد حسن العمدة القيادي في "الحملة الشعبية للحقوق والواجبات" أن سياسة تحرير الوقود ستلقي بآثار سلبية عديدة على المواطن السوداني وستؤدي إلى توسيع مظلة الفقر التي تضم حاليا أكثر من 60 في المئة من الشعب السوداني.
وينبه العمدة إلى مغالطة مهمة صاحبت تبرير القرار، بالقول "ذكر وزير المالية أن واردات النفط السنوية تبلغ 3 مليارات دولار تتحمل الدولة نصفها في شكل دعم لكن سجلات البنك المركزي تشير إلى أن الواردات تبلغ أقل من مليارين دولار سنويا وفقا لبيانات 2019".
ويضيف "نفي وزير المالية عدم وجود صرف حكومي يؤثر على ميزانية الدولة في حين أن الحكومة زادت فعليا من الإنفاق الحكومي في ظل وجود 14 عضوا في مجلس سيادي ونظام إقليمي مترهل وعدم إعادة هيكلة لمؤسسات الدولة وزيادة الإنفاق على الأمن والدفاع بأكثر مما كان في السابق، كما أن الصرف الفعلي للعربات الحكومية بمؤسساتها المدنية والعسكرية غير منتجة هو الأكثر ضررا واستنزافا للوقود من أصحاب العربات الفارهة كما برر وزير المالية لقراره".
ويقول العمدة لموقع سكاي نيوز عربية إن الجانب الأخطر في قرار تحرير المشتقات النفطية هو رفع تكاليف الإنتاج إذ أنه سيحمل المزارع- المنتج الحقيقي في السودان- كامل تكاليف سداد فاتورة الوقود في حين أن الغالبية العظمى من المزارعين هم من الطبقة الكادحة ولا يملكون قوت يومهم ناهيك عن مواجهة الغلاء الفاحش للأسعار والذي سيتضاعف لأرقام مفزعة في بلد يعاني سكانه من تناقص الدخل. ويضيف "ما ينطبق على المزارع ينطبق على كافة المنتجين في القطاعات الأخرى وخصوصا الصناعات التحويلية".