"مات جميع أطفالي"، و"غرق من كانوا أمانة في عنقي، و"أم فقدت طفلها الوحيد"، و"فقدت زوجتي التي حاولت إعادتي لوطني".. كلمات مُرَّة عبَّر بها ناجون من غرق أحد القوارب عن ندمهم على مغامراتهم الطائشة في الهجرة غير الشرعية، ولكن بعد فوات الأوان.
ففي يوم 12 أبريل ابتلعت موجات خليج عدن عشرات اللاجئين الإثيوبيين أمام سواحل جيبوتي، التي وصلوا إليها في نهاية رحلة موت من سواحل عدن اليمنية قاصدين العودة إلى موطنهم في إثيوبيا.
ووفق ما ذكرته المتحدثة الرسمية باسم منظمة الهجرة الدولية في اليمن، أوليفيا هيدون، لـ"سكاي نيوز عربية"، فإن القارب كان على متنه 60 لاجئا، غرق منهم 42 شخصا، بينما يقول اللاجئون إن الأعداد أكبر من ذلك.
موقع "سكاي نيوز عربية" تواصل مع أحد الناجين من رحلة الموت وهو عبد الباسط أبو بكر، بعد وصوله إلى مدينته دري داوا، شرقي إثيوبيا منهكا من معاناة الرحلة، ومن حزن يعتصره لشعوره بالذنب في أنه السبب في غرق زوجته بعد انقلاب القارب.
عبد الباسط وزوجته كانوا يعيشون في اليمن، ولكنه أصر أن ترجع زوجته وأبنائه الاثنين إلى موطنهم في إثيوبيا، وبالفعل عادت، ولكن والد عبد الباسط أصر على أن تعود الزوجة لليمن مرة أخرى برفقة أخو زوجها، ليقنعوا عبد الباسط بالعودة إلى موطنه، وبعد مناقشات طويلة اقتنع عبد الباسط بالعودة الطوعية لإثيوبيا.
والعقبة الأخيرة كانت هي كيفية العودة، فقرروا المخاطرة بركوب قوارب تهريب لاجئين من عدن إلى جيبوتي، ثم إكمال الرحلة برا إلى شرق إثيوبيا حيث ديارهم.
"مفاجئة غير سارة"
ويحكي عبد الباسط تفاصيل الرحلة المميتة: "في11 أبريل، تحركنا من مدينة عدن على الساعة الثانية بعد الظهر، ووصلنا الشاطئ الساعة الرابعة عصرًا، ونزلنا في حوش كبير كان فيه أناس قبلنا يريدون السفر مثلنا، وعلى الساعة 12 ليلا تحركنا لكي نركب القارب".
"قالو لنا النساء والأطفال يركبوا أولا, وكنا 85 شخصا بيننا حوالي 30 طفلا"، ويصف شعوره حينها: "أنا كنت حاسس بالخوف من هذه الرحلة في داخلي ولكني لم اتحدث بهذا الخوف الذي يعتريني داخليا لأحد".
وبرفقته في الرحلة زوجته وأخيه، وصلوا الساعة الخامسة فجرا إلى الساحل الجيبوتي، ولكن القبطان تفاجأ بوجود قوات خفر السواحل الجيبوتية في المكان الذي كانوا ينوون بأن ينزلوا فيه اللاجئين، فتراجعوا قليلا وتوقفوا في منطقة فيها أمواج قوية بعد أن أطفأوا مشغل القارب؛ كي لا يُسمع صوت القارب من خفر السواحل الجيبوتي.
وعندها قرر المهربون التخلص من الركاب، حتى لا يتم إحراقه أو القبض عليهم من قبل خفر السواحل الجيبوتي، فأمروا الركاب بأن يكون الرجال في المقدمة والنساء والأطفال في الوسط، وفي هذه الأثناء امتلأ القارب بالماء بسبب موج ارتطم بالقارب، ولكنهم تمكنوا من تفريغ القارب من الماء، إلا أن الموجة الثانية كانت أقوى وقلبت القارب، ووقعت الفاجعة.
"مات الأطفال"
فلم يكن الجميع يجيد السباحة؛ ولذا غرق الكثيرون، وبقي 8 رجال قادرين على السباحة طول الليل وقاموا بسحب الجثث من البحر إلى الشاطئ حتى طلعت الشمس، ولما رآهم رجال خفر السواحل الجيبوتية قدموا لهم المساعدة في سحب باقي الجثث.
ومن أكثر المشاهد المؤلمة التي مر به خلال الرحلة، يروى عبد الباسط (34 عاما) أن "أحد الركاب كان برفقته 6 أطفال قضوا جميعا، وقال لي: "ماتوا جميع أطفالي ولكن أولاد أختي وأخي كانوا أمانة في رقبتي كيف أواجههم، وأخبرهم بما جرى؟!، ثم رحل ولم أر وجهه مرة أخرى".
وأضاف أن "أم فقدت طفلها الوحيد في البحر، ورأيت زوجها يواسيها قائلا: "ربنا هو الذي أعطانا وهو الذي أخذ منا فاصبري".
"عدت أنا وهي غرقت"
ولكن مأساته الكبرى، هي زوجته التي ذهبت إلى اليمن لتعيده إلى موطنه، فعاد هو وغرقت هي، فيقول بألم وحسرة شديدين: "جثة زوجتي تم إخراجها في السادسة صباحاً، وكان جثمانها ساخنا، حاولت إنقاذها اعتقادا مني بأنها لا زالت حية، ولكن موظفي المنظمة الهجرة الدولية أكدوا لي وفاتها، وطلبت منهم بأن أخذ جثة زوجتي لكي أدفنها في مكان يتواجد فيه أقاربي وأقاربها ولكن الموظفين رفضوا طلبي".
ها قد عاد عبد الباسط مع أخيه وابنه إلى موطنهم، ولكنه لم يعد كما ذهب، بل يعاني مرارة الألم والفقدان لزوجته التي غرقت بجواره مثل عشرات اللاجئين الآخرين، والآلاف يفقدون حياتهم سنويا خلال رحلات الهروب المميتة، ولكن ليس الجميع يتعظ.
ويعد تهريب المهاجرين على "طريق الموت" ما بين القرن الإفريقي واليمن أمرا شائعا في السنوات العشر الأخيرة، بل ويصل الأمر إلى أن المهربين يلقون بالمهاجرين من القوارب في عرض البحر، لتقليل الحمولة أو التكلفة أو اختصار مدة السفر، أو لأي سبب آخر.
ففي مارس 20121 قالت المنظمة الدولية للهجرة، التابعة للأمم المتحدة، إن 20 شخصا على الأقل غرقوا بعد أن ألقى المهربون بعشرات المهاجرين في البحر، أثناء إبحارهم من جيبوتي إلى اليمن.
وهذه ثالث حادثة من نوعها في خليج عدن خلال الأشهر الستة الماضية على ذلك التاريخ، بحسب المنظمة الدولية، وفي العموم لا يكاد تمر أشهر منذ 2014 دون حوادث الغرق.
"أسباب غير مبررة"
وتتنوع أسباب الهجرة من بلدان القرن الإفريقي (الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا) إلى اليمن، وأكثرها غير مبرر، حيث تدور حول البحث عن فرص عمل وحياة أفضل، خصوصا بهدف أخذ اليمن معبرا إلى دول الخليج، إلا أن الرحلة تتحول إلى حياة الجحيم.
وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، يقوم عشرات الآلاف من المهاجرين الأفارقة الشباب سنويا برحلة خطيرة من دول مثل الصومال وإثيوبيا عبر جيبوتي واليمن بحثا عن عمل في دول الخليج، ولكن تجبر جائحة كوفيد-19 الكثيرين على العودة بسبب إغلاق الحدود، مما يقلل من فرص الوصول إلى الوجهات المرغوبة.