اعتبر باحثون ومهتمون بالتاريخ في الجزائر أن خطوة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالاعتراف "باسم فرنسا" بدور الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير بـ"تعذيب وقتل" المحامي والقيادي في الحركة الوطنية الجزائرية، علي بومنجل، "خطوة رمزية" لا بدّ أن تتبعها "خطوات أخرى" من الاعترافات لمعالجة كل الملفات العالقة بخصوص الذاكرة.
وهذه المرة الثانية التي يعترف من خلالها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون رسميا بدور الجيش الاستعماري الفرنسي في قتل مناضل من مناضلي حرب التحرير الجزائرية (1954-1962)، حيث سبق له الإعلان في سبتمبر أيلول 2018 بـ"مسؤولية الدولة الفرنسية" في مقتل المساند للثورة الجزائرية، المناضل الشيوعي، موريس أودان، سنة 1957.
وحسب العديد من الوثائق والتصريحات فإن مسؤولية السلطات الاستعمارية الفرنسية مباشرة في مقتل مناضلي وثوار الجزائر على غرار القائد العربي ابن مهيدي والشيخ العربي التبسي وآخرين، ولذلك يطالب الكثيرون من السلطات الفرنسية بأنه حان الوقت للكشف عن كل هذه الجرائم ورفع الستار عنها والاعتراف بها بصورة رسمية.
وقبل أيام قليلة، أكد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون في لقاء جمعه بوسائل إعلام محلية أن "الجزائر لا تقيم علاقات طيبة على حساب التاريخ ولا على حساب الذاكرة".
وأضاف في هذا الصدد قائلا: "إننا لن نتخلى على ذاكرتنا أبدا، ولا نتاجر بها. الأمور تحل بذكاء وبهدوء وليس بالشعارات"، مؤكدا أن السلطة الجزائرية "تسير مع فرنسا بحزم، وبعلاقات طيبة، بحكم أن العلاقات الطيبة تفيد دائما".
شهداء بلا قبور
يؤكد الكاتب الجزائري المقيم بباريس، سعدي بزيان، صاحب كتاب "جرائم فرنسا في الجزائر" في اتصال جمعه بـ"موقع سكاي نيوز عربية" أن "جرائم الاستعمار الفرنسي في بلادنا متعددة وأن الاعتراف بجريمة أو جريمتين لا يكفي لطيّ ملف الذاكرة".
وأضاف الكاتب بزيان أن الرئيس إيمانويل ماكرون "خطا خطوة بسيطة باعتراف فرنسا بجريمة قتل المناضل علي بومنجل ولكن أين باقي الاعترافات بخصوص قضية البطل العربي ابن مهيدي والشيخ العربي التبسي الذي لا قبر له والآلاف الذين لا أثر لهم بعد استشهادهم".
وأشار المتحدث في هذا الصدد إلى أن "هناك جرائم لا تزال آثارها قائمة إلى اللحظة ولم يتم الاعتراف بها من الحكومة الفرنسية ولا تعويض المتضررين منها، وتتمثل في التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية".
وقال الأستاذ سعدي بزيان الذي ألف عدة كتب حول تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر من بينها "جرائم موريس بابون ضد المهاجرين الجزائريين في 17 أكتوبر 1961" إنه "يتمنى أن يقوم الرئيس ماكرون بخطوات أخرى قبل انتهاء عهدته الرئاسية الأولى لأن نجاحه غير مضمون في الانتخابات المقبلة نظرا للمشاكل الاقتصادية والسياسية في بلاده".
الاعتراف بالجريمة الاستعمارية العامة
لا تزال تطرح جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر (1830-1962) رغم مرور أزيد من نصف قرن عن الاستقلال الكثير من النقاش سواء على المستوى السياسي أو البحثي، وهذا نظرا للتاريخ الطويل للوجود الفرنسي في بلد المليون ونصف مليون شهيد وكثرة الشواهد على الممارسات الاستعمارية الموثقة ضد الإنسان والطبيعة.
ويرى المؤرخ، رابح لونيسي أن خطوة الرئيس إيمانويل ماكرون "إيجابية من الناحية الرمزية"، وتابع المتحدث في تصريح لـ"موقع سكاي نيوز عربية "هو اعتراف تدريجي بجرائم استعمارية فرنسية، لكن تريد إظهارها أنها جرائم محدودة، وهو ما يجب أن تحذر منه الجزائر، فالاستعمار ارتكب جرائم كبيرة بل الاستعمار ذاته هو جريمة، لكن خطوة كهذه مهمة جدا لأنها ستفتح المجال للتشكيك في كل ما روجه الخطاب التاريخي الفرنسي حول الاستعمار في الجزائر".
ودعا الأستاذ رابح لونيسي إلى دور الباحثين لـ"إثبات جرائم أخرى للوصول في النهاية إلى الجريمة الاستعمارية العامة".
وحسب لونيسي فإن هذه الخطوة الفرنسية "ستتبعها خطوات أخرى سيلعب فيها البحث والأرشيف الذي سيطلقه دورا بارزا فيه، وهذه الخطوة تدخل في إطار عمل بيداغوجي وممنهج كي نصل في الأخير إلى طي ملف الذاكرة، ومن الممكن جدا أن نصل بعد سنوات إلى الاعتراف بالجريمة الاستعمارية من الرأي العام الفرنسي وإضعاف كبير لأطروحات اللوبيات واليمين المتطرف وهو ما سيسمح بالاعتراف الرسمي الفرنسي في الأخير دون عراقيل وقلاقل في فرنسا".
ويعتقد المؤرخ لونيسي الذي يُدرس بجامعة وهران غرب الجزائر أن "الرئيس ماكرون يتبع منهجية الخطوة خطوة، حتى يقتنع الرأي العام الفرنسي بالخطوة النهائية، وهي اعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية مقابل حصولها على مكاسب اقتصادية في الجزائر".
وأضاف رابح لونيسي في سياق تقديم قراءته للموضوع أن "ماكرون قال عدة مرات بأنه شاب لا علاقة له لا بالاستعمار ولا بحرب التحرير الجزائرية، كما وصفه الكثير بالبراغماتية، ويبدو أن الجزائر تعرف نفسية ماكرون جيدا، وتدرك أنها فرصة لاعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية في الجزائر".