عكس التوتر الأخير بين تركيا وإيران، بخصوص التصريحات الصحفية التي صدرت عن السفير الإيراني بالعراق إيران مسجدي، قبل أيام قليلة، حجم التناقضات السياسية بين الطرفين، حيث قال مسجدي، "نرفض التدخل العسكري في العراق، ويجب ألا تكون القوات التركية بأي شكل من الأشكال مصدر تهديد للأراضي العراقية وألا تقوم باحتلاله".
وأضاف مسجدي، "يجب أن تتولى القوات العراقية توفير الأمن بنفسها، وقوات إقليم كردستان تحفظ الأمن في مناطقها، ويستتب الأمن في المنطقة، وعلى الأتراك أن ينسحبوا إلى خطوط حدودهم الدولية وينتشروا هناك وأن يتولى العراقيون بأنفسهم ضمان أمن العراق".
تراشق لفظي
من جانبه، غرد السفير التركي بالعراق فاتح يلدز على "تويتر"، "سيكون سفير إيران آخر من يلقي محاضرة على تركيا حول احترام حدود العراق".
بيد أن الأمر لم يقف عند حدود الملاسنات المتبادلة عبر المنصات المختلفة، إذ استدعت وزارة الخارجية التركية، الأحد الماضي، سفير طهران لدى أنقرة على خلفية تصريحات السفير الإيراني، التي دانت "الوجود العسكري" لأنقرة، واعتبرته انتهاكا لسيادة العراق، بينما قالت الخارجية التركية في بيان رسمي إن "ما ننتظره من إيران هو دعم تركيا في مكافحتها للإرهاب وليس الوقوف ضدها".
منافسة شديدة
ولا تعد الأزمة الدبلوماسية الأخيرة حدثا عرضيا، إذ ثمة سابقة أخرى لكن من جانب تركيا، حسبما يوضح الباحث والأكاديمي العراقي عبد الرؤوف مصطفى، لموقع "سكاي نيوز عربية"، وذلك عندما ألقى الرئيس التركي، قصيدة شعرية أثناء مشاركته في الاحتفالات العسكرية التي أجرتها أذربيجان في نهاية العام الماضي، بمناسبة الانتصار العسكري على أرمينيا في حرب ناغورني قره باغ.
وكانت القصيدة تتحدث عن تقسيم الأراضي الأذربيجانية بين روسيا وإيران في القرن الـ19 وهو ما اعتبرته إيران استهدافا مباشرا لوحدتها الترابية، وحدثاً من شأنه تأجيج النزعات الانفصالية لدى الأذريين الإيرانيين لحديثها عن الفصل بين الشعب الأذري، بموجب معاهدة جلستان، التي منحت الأراضي الأذرية شمال نهر أرس لروسيا القيصرية، والأراضي الأذرية جنوب النهر لإيران.
وترتبط الأزمة الأخيرة بالأساس بتعارض المصالح النابع من تقاطع المشروعين التركي القومي والإيراني المذهبي، لبسط النفوذ وامتلاك أوراق الضغط، بحسب الباحث والأكاديمي العراقي، الذي يضيف أنه "مع التنافس الشديد على احتلال مركز القيادة الإقليمية الشاغر منذ حدوث خلل في التوازنات الإقليمية القائمة بين دول المنطقة، على خلفية إطاحة النظام العراقي، مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة، تتطلع البلدان نحو مد نفوذها للبحث عن المصالح الجيوسياسية.
ومن ثم حدث تداخل في مناطق النفوذ بين المشروعين الإيراني والتركي في دوائر عديدة سواء في المنطقة الشرق أوسطية أو في خارجها لا سيما في الساحة العراقية ذات الأهمية الاستراتيجية والمركزية لكلا الدولتين".
حجر الزاوية
وبالنسبة لإيران، فإن العراق يعد "حجر زاوية" في استراتيجيتها التوسعية "لكونه يشكل الجدار الفاصل بين الحضارتين الفارسية والعربية الإسلامية السنية"، كما أنه أحد أهم حلقات الهلال الشيعي و"الكريدور الإيراني"، بحسب مصطفى، والذي يربط طهران بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا في إطار العقيدة الجيوبوليتيكية الإيرانية، موضحا أنه بمثابة "معبر هام لنقل السلاح من إيران للميليشيات المسلحة الموالية لإيران في سوريا ولبنان لمد نطاق النفوذ وحصار إسرائيل من كافة الجبهات، فضلاً عن أن خلق النفوذ في العراق يضمن لإيران كسر الطوق الأميركي المفروض عليها شرقا وغربا، وضمان عدو وجود نظام عراقي سني يرفض المخططات الإيرانية ويعيد العراق لمحورها العربي".
وعلى الجانب الآخر، فإن الأمر يبدو مغايرا بالنسبة لتركيا كما أنه يحمل جملة تعقيدات، بحسب الباحث والأكاديمي العراقي الذي يرى أن العراق "لن يشكل أهمية في الاستراتيجية التركية نتيجة عامل وحيد أو ظرف استثنائي فقط، وإنما هو نتاج عوامل إقليمية ودولية هيأت ودفعت أنقرة نحو التدخل المباشر في الساحة العراقية سعيا لتحقيق ما تراه تركيا مصالحها القومية العليا، حيث يشكل العراق منطقة استراتيجية في المشروع التركي لأبعاد تاريخية إذ يعتبر الأتراك الموصل جزءا من تركيا وتابعا لها انتزع منها بموجب المعاهدة مع بريطانيا عام 1926 بعد أن كانت تابعة لها لقرون ضمن الدولة العثمانية".
البحث عن دور
ومن الناحية السياسية، تطمع أنقرة في عودة دورها القديم والتقليدي في الساحة العراقية، بحسب المصدر ذاته، غير أن ما يعيقها هو "التوغل العسكري والسياسي والاقتصادي الإيراني في مفاصل الدولة العراقية وفي القرار العراقي".
ويلفت إلى أن تركيا تتحرك في العراق في سياق التخوف من المشروع الكردي في العراق، ومن ثم إقامة مشروع مماثل في سوريا، إذ إن كردستان العراق يعد بمثابة مركز الحركات الكردية التركية القائمة على الأراضي التركية والإيرانية والسورية.
ولا يعني أبدا التعاون الذي جمع الدولتين أثناء فترة الرئيس الأميركي دونالد ترامب زوال الصراع بين الدولتين على مناطق النفوذ وأجندة المصالح في الدوائر الجغرافية الاستراتيجية لكل منهما، وإنما هو فقط تراجع "منحنى الصراع" لأسباب تتعلق بالعقوبات التي فرضها ترامب على الدولتين، مما أدى إلى "تقاربهما وإن كان التقارب من جهة إيران لتركيا أكبر لحاجة طهران لدول الجوار للتخفيف من وطأة العقوبات القاسية على أوضاعها الاقتصادية والمعيشية، فما إن خسر ترامب السباق الرئاسي وفاز الرئيس بايدن الديمقراطي زاد الحديث حول احتمالية العودة للاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران عندها أدركت أنقرة ضرورة رسم معالم مقاربة تركية جديدة تتناسب وتوجهات الإدارة الأميركية الجديدة من ناحية وتتماشى والبعد البراغماتي الشديد الذي يحكم السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان من ناحية ثانية".