لم تكن سلوى تتوقع أن يعود العز لحياكة الصوف، بعد سنين عديدة من غياب هذه الحرفة الجميلة التي تعلمتها يوم كانت في العاشرة من عمرها ودأبت على ممارسها في أيام العطل المدرسية.
يومها كانت الحياكة رفيقة السيّدات طيلة فصل الشتاء، إذ كانت العائلة تعتمد عليها في تأمين ملابس الصوف، نظراً لغلاء أسعارها في الأسواق حيناً، وحيناً آخر بسبب شغف الأمهات ليحكن ملابس أولادهن بأناملهن درءاً للبرد .
وبقيت الحرفة التي امتهنتها الأمهات والجدات في لبنان رائجة الى أن سيطرت الماركات على السوق، وحازت إعجاب الصبايا، ورويداً رويداً خفت نجم الصوف وباتت قلّة قليلة تعمل في حياكته، غير أنّ الحال تبدّل وتغيرت الأوضاع، مما دفع بسلوى وكثيرات مثلها لضخّ الحياة في صنارة الحياكة وخيوط الصوف الملوّنة من جديد، في محاولة منهنّ لمواجهة الأزمة الاقتصادية من جهة ومن جهة أخرى لقضاء وقت الحجر المنزلي في زمن وباء كورونا دون ملل .
ففي ظل الحجر المنزلي في البيوت اللبنانية، اليوم، يعاد إحياء هذه المهارات اليدوية مجدداً، فهي تحتاج إلى وقت، والوقت متاح الآن كما تقول سلوى لموقع "سكاي نيوز عربية" وتضيف: "أن تعلم هذه المهارات يعلم الصبر والإصرار، ويمنح الفرح لكون الجهد يثمر ويصبح للوقت معنى، وهو يشبه التأمل لأنه يحتاج إلى تركيز كبير وصبر وحب، ناهيك عن فكرة الابتعاد عن إدمان أجهزة الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي ".
وتقول هدى خالد، وهي سيدة سبعينية، إنها حملت عند تأسيس بيت الزوجية حقيبتي سفر كبيرتين من المشغولات اليدوية، نفذت هي بعضاً منها كما ساعدتها والدتها، وشقيقتاها وصديقتها في بعضها الآخر، ولم تبخل جارتها عليها ببعض المنسوجات اليدوية الأنيقة كهدية تذكارية منها لطاولات القهوة والتلفزيون وأغطية أباريق المياه وأطراف السرير.
لم تفرط هدى في أي من هذه المشغولات، وما لبثت أن وزعتها على بناتها عندما تزوجن وكذلك على زوجات أبنائها وتختم "اليوم تخونني حاسة البصر وما يسعدني أن حفيداتي يرغبن بمزاولة هذه الحرفة لتمضية أوقاتهن في الحجر المنزلي ".
وبسبب شغفها بهذه المشغولات، افتتحت الحاجة سوسن سلام، ابنة مدينة بيروت، متجراً لبيع الصوف بعد أن تركت مهنة التعليم، وتروي في حديث خاص لموقع سكاي نيوز عربية القصة فتقول :" كنت أدرس الفيزياء لثلاثة عقود وبعد تركي للعمل لأسباب عديدة، قررت البقاء في المنزل الى جانب زوجي المريض اليوم وافتتحت ركناً لبيع الصوف بالقرب من المنزل سميته "إكسسواراتي" يختص بكل أنواع الخيوط والصنارات والإبر ومعدات التطريز كاملة ".
وتبيع الحاجة سوسن في متجرها المواد الأولية للحرفة وقد صار عندها عشرات الزبائن والأصدقاء ولم تكن لتتوقّع أن يعود العزّ لحياكة الصوف وتضيف:" كانت الحياكة قبل سنوات رفيقة السيّدات وقت الشتاء، إذ كانت العائلة تعتمد عليها في تأمين ملابس الصوف نظراً لغلاء أسعارها في الأسواق".
سوسن التي تبيع خيطان الصوف في مدينة بيروت باتت مقصودة من مناطق في خارج العاصمة خصوصاً في فترة الحجر ومن سيدات من أعمار متفاوتة، بعدما اقتصرت مزاولتها سابقاً على قلّة من السيدات ممّن بدأن قبل فترة بالعودة الى المهن اليدوية ومنها حياكة الصوف التي تؤمن مردوداً مالياً لهن، وتتيح العمل داخل المنزل، بعيداً من مخاطر فيروس "كورونا".
"في الآونة الأخيرة، زاد الطلب على الصوف "، تقول سوسن التي تقدّم المشورة لكل سيدة مبتدئة، وتساعدها في حياكة "القطبة" الأولى خصوصاً الفتيات الصغيرات ولا تُخفي أنّ القطبة الأولى هي المبدأ الرئيسي في الحياكة، وإذا نفذت بشكل مغلوط تضطرّ معها لإلى فكّها وإعادة تركيبها من جديد.
وتؤكّد "أنّ الحياكة تحتاج الى المهارة والذوق، وتدخل ضمن مهن الموضة، خصوصاً مع استحداث قطب مختلفة وموديلات على الموضة، لافتة إلى أن الصبايا الصغيرات بدأن يحكن السوار والخلخال وكافة الإكسسوارات عبر اليوتيوب وهذا ما يسعدني " توضح سوسن.
وتتوقع أن تنشط هذه الحرفة أكثر خلال السنوات المقبلة وليس فقط في فترة الحجر، وتلفت الى ارتفاع نسبة شراء "كبكوب" الصوف هذه الأيام، وحسب قولها "الناس يريدون استغلال وقت الحجر بعمل منتج، فـ"الكنزة" (القميص) التي بلغ سعرها في السوق أكثر من مئة ألف ليرة، يمكن إنتاجها بأقل من 40 ألف ليرة بحياكتها يدوياً ، بالإضافة الى أنّ سعر الصوف ما زال منخفضاً مقارنة مع الارتفاع الجنوني للأسعار ".
في محلّ الصوف، تتعرّف إلى سيّدة حضرت مع بناتها لاختيار الألوان المناسبة لفساتينهنّ، وعلى روعة التي بدأت تحوك القفازات والكمّامات وتبيعها، بينما وجدت فاطمة فرصة عمل لها، وترى أنّ "الحياكة أوفر من الجاهز، بالرغم من أنّها تتطلّب مجهوداً ووقتاً وقد بدأت أصمّم الموديلات التي أحيكها لتواكب الموضة، وحياكة الصوف بمثابة منقذ لي من البطالة"، وتؤكّد فاطمة أنّ "الطلب على منسوجات الصوف بدأ يرتفع خصوصاً وأنّني أنسجها بأسلوب عصري يتماشى وأذواق السيّدات الأنيقات ".