لم يكن للدرس المسرحي الجامعي بالمغرب أن ينطلق، ولا للنقد الأكاديمي المسرحي أن يتأسس وينتعش، وأن تظهر كفاءات مسرحية مغربية يشهد لها بالتميز، لولا الأكاديمي المسرحي حسن المنيعي أو "بَا حسن"، كما كان يحلو للكثير من طلبته والمهتمين بالمسرح مناداته.
حسن المنيعي كان أبا عطوفا ومعطاء لكل الأجيال المسرحية منذ ستينيات القرن الماضي إلى غاية 13 من نوفمبر الماضي، تاريخ وفاته، وعاشقا لأبي الفنون، المسرح، الذي أخلص له تدريسا ونقدا وكتابة ومتابعة طوال سنوات حياته، وساهم في تكوين وتأسيس الجيل الأول من النقاد المسرحيين المغاربة.
لم يبخل "بَا حسن" على طلبته، ولا على كل الباحثين بالنصح والتوجيه، فقد كان أستاذا وأبا لكل الأجيال، وكان الكل يشد الرحال إلى مدينة مكناس، حيث يقيم، أو مدينة فاس، حين كان يدرس بجامعة سيدي محمد بن عبد الله "ظهر المهراز"، من أجل الاستفادة منه، والنهل من معين علمه الذي لا ينضب، حيث ستظل كتبه ودراساته الأكاديمية شاهدة على غزارة علمه، وعلى المجهودات الكبيرة التي قدمها من أجل ترسيخ الدرس المسرحي بالمغرب.
عمل المنيعي، خلال مساره، على ترسيخ الكثير من القيم الإنسانية مثل الحرية والعقل والعلم ومحاربة الخرافة، والتي أوجد لها بابا مشرعا هو الممارسة المسرحية والنقد المسرحي المصاحب لها، باعتبارهما أسس التقدم والنهضة وتذوق الحياة والإقبال عليها.
أفضال "أستاذ الأجيال" و"المعلم الأول"، الدكتور حسن المنيعي (1941- 2020)، كثيرة وكبيرة جدا على الحقل المسرحي والثقافي والأدبي بالمغرب والعالم العربي، فإضافة إلى كونه أول من رسخ الدرس المسرحي بالمغرب، والمؤسس الحقيقي لحقل دراسات الفرجة بالمغرب، فهو أول من أرسى الكثير من التقاليد المسرحية، وعمل على توجيه مسارات المسرح الجامعي والمدرسي على السواء، لأنه كان يؤمن بأن تطور المسرح في الجامعة المغربية رهين بتطور المسرح المدرسي.
ولهذا السبب، عمل على تقديم العديد من المقترحات المهمة وعلى رأسها إدماج المسرح في المدرسة الابتدائية، وخلق أقسام نموذجية للمسرح في الثانويات، وخلق شعب للمسرح في الجامعات، وتشجيع النشاط المسرحي في المدرسة والجامعة، وتحديدا عن طريق مهرجانات المسرح الجامعي بالمغرب، والتي لا تكاد تخلو أي جامعة مغربية منها، حتى ولو كان تخصصها اقتصاد وقانون، مثلما هو الشأن مع مهرجان فاس للمسرحي الجامعي، الذي تنظمه منذ سنوات كلية الحقوق هناك، ويشرف عليه الناقد المسرحي المغربي الدكتور سعيد الناجي.
وفي الوقت الذي عمد فيه الكثير من الباحثين إلى مواكبة التقليد والاهتمام بالطابع الفولكلوري التراثي في ستينيات القرن الماضي، شرع حسن المنيعي في ارتياد آفاق التغيير عبر الانفتاح على المسرح والفن التشكيلي والرواية، فانخرط بشكل مبكر في مسيرة النضال ضد التقليد، ومسايرة جبهات التحديث الثقافي والمشاركة في تحرير وإصدار المجلات الرائدة بالمغرب، وتنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية، والعمل على خلق حركية ثقافية فعالة في المغرب، والتعريف بالمسرح المغربي على الصعيدين العربي والعالمي.
ويعتبر حسن من النقاد القلائل الذين اهتموا بأشكال العرض المسرحي، فبحث في مفاهيم أساسية للعرض، واستقر على مفهوم الفرجة المسرحية، الذي اعتنى به وطوره، في مجمل كتاباته المسرحية، كما نحت الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي أصبحت فيما بعد رائجة في مجال النقد والتنظير المسرحيين من قبيل الأشكال الـ"ماقبل مسرحية"، والارتجال، والدراماتورجيا، والتمسرح، وما بعد الدراما وغيرها.
وكان المسرحي حسن المنيعي يتابع كل المسرحيين المغاربة، ويواظب على مشاهدة كل العروض، حتى ولو كان أصحابها مبتدئين، فهو كان الصوت النقدي لكل المسرحيين المغاربة، بل وحتى العرب، وهذا ما يشهد به كل النقاد والمسرحيين بالعالم العربي، الذين رافقوه في هذه المهمة، والذين كتبوا عنه الشيء الكثير قبل رحيله وبعده، ومن بينهم الناقد المسرحي السوري أنور محمد، الذي يقول إنه "في وعي أو في المخطط الاستراتيجي لفكر المنيعي، ومن خلال مجمل كتاباته النقدية في المسرح والأدب والفن، تراه ضد تغييب الإنسان وقمعه، فلا يفسح مجالا للمتسلطين باستخدام آليات اللجم والإسكات التي تسود الحياة الثقافية. ففي أطروحاته وممارساته النظرية والعملية نحن مع مفكر مسرحي ذي عقل حقوقي، سياسي، أخلاقي، علمي، يحاول أن يولد الثقة بالمسرح باعتباره مشروعا نهضويا يقوم بفضح ورفع الغطاء الأيديولوجي عن المستبد العربي، الذي يُجهض كل محاولة للاستقلال العلمي والاقتصادي والاجتماعي للذات العربية، فتبقى تابعة، تبقى ذات عقل نقلي".
يشار إلى أن حسن المنيعي، من مواليد مدينة مكناس سنة 1941، تابع دراساته العليا بكل من جامعة محمد الخامس بالرباط، وجامعة السوربون بباريس الفرنسية.
اشتغل أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد بن عبد الله، كلية الآداب ظهر المهراز بفاس. بدأ بنشر مقالاته وأبحاثه منذ سنة 1963، وواصل عمله بإصدار العديد من الكتب والدراسات من قبيل: "أبحاث في المسرح المغربي" 1974، و"هنا المسرح العربي، هنا بعض تجلياته" 1990، و"المسرح والارتجال" 1992، و"المسرح المغربي، من التأسيس إلى صناعة الفرجة" 1994، و"المسرح والسيميولوجيا" 1995، و"الجسد في المسرح" 1996، و"المسرح مرة أخرى" 1999، و"قراءة في مسارات المسرح المغربي" 2003، و"المسرح الحديث إشراقات وخيارات" 2009، و"حركية الفرجة في المسرح.. الواقع والتطلعات" 2014، و"عن المسرح المغربي: المسار والهوية" 2015.
وإضافة إلى كتاباته المسرحية النقدية، أصدر الدكتور حسن المنيعي مجموعة من الكتب في النقد الأدبي والتشكيل والرواية، كما أصدر مجموعة من الترجمات العربية لمسرحيات عالمية، ولدراسات نقدية مسرحية لكتاب عالميين، حيث ستظل هذه الذخيرة العلمية منارة لكل الطلاب والباحثين في درب المعرفة.