قطعت وثيقة الدستور الجزائري أشواطا كبيرة باتجاه صندوق الاقتراع، بعدما قام الوزير الأول عبد العزيز جراد، بعرض مشروع قانون تعديل الدستور على المؤسسة التشريعية.
وتم عرض المشروع أمام لجنة الشؤون القانونية والإدارية والحريات في البرلمان، على أن يتم طرحه للتصويت على نواب المجلس في جلسة علنية، يوم الخميس المقبل.
وتتجه الجزائر بخطوات ثابتة إلى بناء نظام سياسي شبه رئاسي، بينما تقترب من تنظيم الاستفتاء الشعبي على الدستور، مطلع نوفمبر المقبل.
التحرر من نظام الرئاسة "المشدد"
ويبلغ عدد الناخبين في الجزائر أكثر من 24 مليون ناخب من نحو 42 مليونا، وتأمل السلطة أن يحظى الاستفتاء بالإقبال الكبير.
ولهذا الغرض، أصدرت السلطات بروتوكولا خاصا بالاستفتاء بين سلطة مراقبة الانتخابات ووزارة الصحة، كما قال رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي، إن البروتوكول الصحي يهدف لحماية سلامة 24 مليون ناخب محتمل.
وبقدر ما يحمله الموعد من رمزية تاريخية لتزامنه مع إحياء البلاد للذكرى الـ 65 لاندلاع "ثورة التحرير"، تم إعداد 65 صفحة من التعديلات لمواد دستورية.
والهدف من التعديل، بحسب السلطات، هو إحداث تغيير كبير في النظام السياسي وخلق توازن بين السلطات الثلاثة بعدما عشرين سنة كان فيها الدستور مجرد وثيقة في ظل الفساد، بحسب ما يقوله معارضون.
وبإعلان فشل النظام الرئاسي، من قبل البعض، جاءت هذه الخطوة حتى تستجيب مع سياسة البلاد بعد حراك 22 فبراير ووضعية مؤسسات الدولة.
ويصف خبراء في الدستور الجزائري، نظام الحكم في عهد عبد العزيز بوتفليقة بـ"الرئاسوي المشدد"، لأنه منح الرئيس صلاحيات واسعة ونفوذ على جميع الأجهزة الأخرى.
ويرى الخبير في القانون الدستوري، إبراهيم قاوي، أن السلطة الحالية تريد التخفيف من حدة ذلك النظام المغلق، وقد اختارت هذا الطريق الجديد الذي يعد الحل الوحيد في ظل صعوبة التوجه إلى النظام البرلماني.
وقال الأستاذ قاوي، في تصريح لموقع "سكاي نيوز عربية": "التوجه الجديد هو في الأصل نظام برلماني بخصائص النظام الرئاسي"، وهو ما يعكسه مضمون مشروع الدستور الجديد الذي ينص على اختيار الرئيس عن طريق الانتخاب الشعبي مع تقسييم صلاحيات السلطة التنفيذية بين الرئاسة والحكومة.
تعهد بدعم الحريات
ويحصي الخبير الدستوري عددا مما يصفه بـ"المميزات" التي تأتي في مشروع الدستور، خاصة تلك التي تتعلق بالحقوق والحريات وهي تقدم ضمانات أكبر للأحزاب والصحافة والمجتمع المدني في ممارسة نشاطهم دون ضغط، كما تحمل الوثيقة معها رغبة في تحرير جهاز القضاء وذلك بإبعاد الوزير الأول من المجلس الأعلى للقضاء، في إطار منح العدالة مزيدا من الشفافية والاستقلالية.
ويرى المتابعون أنه بالنظر إلى ترسانة القوانين التي كانت الجزائر قد أصدرتها على مدار خمسين عاما من الاستقلال، تبقى العبرة الأخيرة مرتبطة بمصداقية العمل السياسي، ومؤشرات تغيير ملامح الإرادة السياسية كي لا يكون الدستور مجرد ورقة عاجزة أمام الممارسات السياسية للسلطة الحاكمة.
ولا يصنف هذا المشروع في خانة الدستور الجديد بالمفهوم القانوني والسياسي، حيث ينقسم الخبراء إلى قسمين بين من يعتبرها وثيقة تضيف مزيداً من التعديلات لدستور 1989 الذي حمل معه التعددية الحزبية، وبين من يعتبره تعديلا لتعديلات عام 1996 التي جاءت مرفقة بدسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية.
ويفسر الخبير قاوي ذلك الأمر بضرورة أن يمس التعديل دائرة الجمود في الدستور كي يصنف في خانة الدستور الجديد، وهو ما لم يلمسه المشروع الحالي الذي أضفى الكثير من التحسينات على تعديلات 1996 وخلق أجواءا قانونية أكثر تناغما بين السلطات الثلاثة عبر الحد من سلطة الرئيس على حساب البرلمان.
وبهذا الشكل فقط، عرفت البلاد ثلاثة دساتير وأربعة تعديلات، بداية من أول دستور للجزائر عام 1963، ثم دستور 1976 الذي اعتبر أن الخيار الاشتراكي لا رجعة فيه، إلى أن جاء دستور 1989 فتخلى عن ذلك الاختيار.
ووقف الرئيس عبد المجيد تبون أمام عدة تحديات للوصول إلى هذه المرحلة البارزة في تاريخ الجزائر، فلم يكن من السهل إقناع الرأي العام وخاصة الحراك الشعبي بأن التغيير يجب أن يبدأ عبر تعديل الدستور بعد الانتخابات الرئاسية التي نظمت في 12 ديسمبر 2019.
وقد تم فتح أبواب قصر المرادية على مصاريعه من أجل تلقي المقترحات ونقد مسودة الدستور الذي أوعز به الرئيس تبون للخبير الدستوري أحمد لعرابة لإعدادها، وكان الهدف من كل ذلك هو الوصول إلى دستور توافقي يقضى على كل أشكال التفرد بالحكم.
وعقب ذلك، تم جمع أكثر من 5 ألاف مقترح لتعديل وثيقة رسمية، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد السياسي، فقد كان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يطرح أفكاره على البرلمان الذي يصادق عليها أيضا بالإجماع.
ومن أبرز ما جاء في المشروع النهائي للدستور هو تحديد الولايات الرئاسية في عهدتين اثنتين، بينما تم إلغاء إدراج منصب نائب الرئيس في النص النهائي.
وفي إطار توازن السلطات، أشارت الوثيقة إلى تعيين رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية، وفي حالة كانت الأغلبية موالية للرئيس وبرنامجه أو عن طريق التحالف الرئاسي.
وينشط في الجزائر أكثر من 60 حزباً، أبرزها حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي، وقد أعلنت معظم الأحزاب دعمها وتأييدها لمشروع الدستور بما فيها الأحزاب التي نافست الرئيس تبون في الانتخابات الرئاسية.
ومن أبرز المطالب التي رفعتها الأحزاب السياسية؛ تعيين رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية، ويرى المحامي والباحث في القانون، عمار خبابة، أن هذا المطلب قد تحقق في وثيقة الدستور، وقال لـ"سكاي نيوز عربية:"هذا المشروع يستجيب في جزء كبير منه إلى مطالب الشعب والحراك، وإن كان التطلع دائما إلى الأفضل".
معارضة مشتتة
في آخر تعليق له حول وثيقة الدستور، قال الرئيس تبون إن وثيقة الدستور جاءت استجابة لمطالب الحراك، وهو ما أكد عليه الوزير الأول عبد العزيز جراد الذي قال إن التعديل الدستوري الذي أفرجت عنه الرئاسة "توافقي"، ويلبي مطالب الحراك الشعبي.
وأمام هذه الخطوات المتسارعة للسلطة الجديدة، خمدت أصوات المعارضة بشكل كبير، غير أن ما تعيشه الجزائر هذه الأيام يغلب حالة من الركود في الحياة السياسية، حيث يصعب قياس ردة الفعل بعدما طغت المسيرات على النشاط الحزبي والسياسي فصارت الأحزاب المعارضة تبدي تأييدا لمطالب الحراك، وهذا الأمر جعلها تتخلى عن فكرة التعبير وفق مشروعها الحزبي خوفا من ردة فعل المحتجين.
ويرى منتقدون أن المعارضة الجزائرية آلت إلى حالة من الخمول العام، كما يقول الباحث عمار خبابة إن الشخصيات والأحزاب الرافضة لخارطة طريق السلطة لم تنجح في التوحد حول فكرة، وهذا الأمر جعلها تبدو مشتتة بين من يطلب بمجلس تأسيسي وبين من يريد العودة للحراك من أجل ممارسة الرفض،
وقال خبابة: "البلاد بحاجة للذهاب إلى الإصلاح والتغيير في إطار الاستقرار والتدرج وهذا ما يحدث الآن وأفضل الخيارات المطروحة".