أعلنت الحكومة السودانية، الثلاثاء، استئناف مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، بعد تعثر دام عدة أسابيع، لتكون هذه فرصة جديدة لتحقيق السلام في السودان.
وحذر مراقبون من أن "إضاعة الفرصة الحالية، يمكن أن يتسبب في المزيد من المعاناة"، للبلد الذي عاش حروبا أهلية استمرت 60 عاما، والخارج لتوه من حقبة انتهت بالإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، عقب احتجاجات شعبية استمرت 6 أشهر.
حروب مستمرة
ومنذ نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، ظل السودان يعيش حروبا أهلية حصدت أرواح نحو 4 ملايين شخص، وأجبرت أكثر من 10 ملايين على النزوح الداخلي، هربا من الموت، أو اللجوء إلى بلدان أخرى بحثا عن الأمان والاستقرار.
ورغم انحصار الحرب منذ عام 1955 في جنوب السودان، الذي انفصل وفقا لمقررات مؤتمر نيفاشا وكوّن دولته المستقلة عام 2011، فإن نطاقها الجغرافي بدأ في الاتساع مع مطلع الألفية الحالية، ليشمل العديد من المناطق في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
وأدى ذلك إلى إهدار كم ضخم من الموارد، وتسبب في خسائر مادية مباشرة وغير مباشرة، تقدر بأكثر من 600 مليار دولار.
وانطلقت في عاصمة جنوب السودان، جوبا، في نوفمبر 2019، مفاوضات بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، لكنها لم تتمكن حتى الآن من التوصل إلى اتفاق نهائي، في ظل غياب فصيل رئيسي في دارفور، وهو حركة عبد الواحد محمد، ووجود تباينات كبيرة في الرؤى بين الوفد الحكومي والحركة الشعبية شمال، بقيادة عبدالعزيز الحلو، التي تريد اتفاقا صريحا على "علمانية الدولة".
ورغم التقدم النسبي المحرز في بعض الجوانب، مثل وقف العدائيات وفتح المسارات الإنسانية والحكم الإقليمي، فإن هناك تباينات واضحة في مساري الترتيبات الأمنية، واقتسام الثروة والسلطة.
رؤى مختلفة
وفيما ترى بعض الفعاليات السياسية أن التوصل إلى اتفاق مع الجبهة الثورية والحركات المسلحة المنخرطة في المفاوضات الحالية قد يسهل التفاوض مع حركة عبدالواحد والحركات الممانعة الأخرى، يقول آخرون، مثل الكاتب الصحفي مأمون الباقر، إن "تجزئة جهود السلام، تعني إطالة أمد الأزمة وهدر المزيد من الموارد".
واعتبر الباقر أن احتجاجات ديسمبر "رفعت شعارات ورؤى تخاطب تطلعات وأجندة معظم الحركات المسلحة، لذلك كان ينبغي على تلك الحركات الانضمام للمسار الداخلي، ومناقشة مطالبها في إطار الحراك الوطني الجاري حاليا".
وحذر الكاتب الصحفي، في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية"، من أن "تفويت فرصة صناعة سلام حقيقي قائم على أجندة وطنية خالصة، بعيدة عن المحاصصات والنظرة الضيقة، سيزيد من معاناة سكان المناطق المتأثرة بالحرب، وسيعمق من أزمة ظلت ترهق البلاد على مدى العقود الستة الماضية".
أزمة معقدة
ووفقا لوزير الخارجية الأسبق إبراهيم طه أيوب، فإن قضية الحروب الأهلية المتواصلة في السودان، تعد "قضية مزمنة"، كونها لازمت البلاد استقلالها عام 1956.
واعتبر أيوب في حديث مع موقع "سكاي نيوز عربية"، أن المسار الحالي للمفاوضات "لن يخدم قضية السلام بالشكل المطلوب"، متوقعا أن تستمر "متلازمة الحرب" لأجيال قادمة.
وأضاف: "السبب في ذلك هو عدم تغير عقلية النخب التي تحكم البلاد منذ عام 1956، وفي الجانب الآخر ارتهان العديد من قيادات الحركات المسلحة لمصالحها الضيقة".
ويرى أيوب أن "تمدد الحرب إلى شرق البلاد وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، وما تبع ذلك من تفريط نظام الإخوان بوحدة السودان، الذي قاد إلى انفصال الجنوب، يعود للقصور على المستوى الوطني، إضافة إلى مطامع بعض الدول، التي ترى أن وجود سودان مستقر وديمقراطي قد يسبب لها المتاعب، وأن السيطرة عليه لا تأتي إلا من خلال إضعافه وإشغاله بأوضاعه الداخلية".
وعبر أيوب عن اعتقاده بأن مفاوضات السلام "لن تجدي نفعا"، قائلا إنها "تجري بنفس العقلية القديمة التي طبقت منذ بداية الحرب الأهلية الأولى".
وأضاف أن هناك "إشكالية في مكونات المفاوضين، إضافة إلى غياب بعض الحركات المؤثرة"، راهنا نجاح المفاوضات بـ"وضعها في يد الحكومة المدنية، وإلغاء أسلوب المسارات المتبع حاليا، وتكوين جهاز قومي يوكل إليه مهمة التفاوض على أسس تخاطب مطالب ومتطلبات الشعوب المستضعفة والمهمشة في الأرياف في مختلف بقاع السودان، والاستماع إلى وجهات نظر أصحابها الحقيقيين".
تشظي واختلاف
وتصطدم عملية التوصل لاتفاق نهائي بالتشظي والاختلاف الكبير حتى داخل المكون الواحد من مكونات المسارات المشاركة في المفاوضات الحالية.
والملاحظ أن هناك سيولة كبيرة من الناحية الشكلية، إذ توجد 6 مسارات، وفي كل مسار مجموعات متنافرة بشكل واضح، مما يعمق من أزمة التفاوض. وفي بعض المسارات وصل الامر إلى حد خلافات جوهرية معقدة حول أهلية المفاوضين.
وفي هذا السياق، قال بيان، صدر الثلاثاء، عن المجلس الاستشاري الأعلى لشرق السودان، وهو جهة استشارية وطنية طوعية تضم مجموعة من أساتذة الجامعات وعلماء وخبراء ومهنيين من أبناء شرق السودان، إن مسار الشرق المشارك بمفاوضات الحكومة مع الجبهة الثورية، والذي شهد توقيع اتفاق عرف باتفاق سلام الشرق في مارس الماضي، "لا يمثل أهل الشرق ولن يجلب سلاما حقيقيا".
وأوضح البيان أن "مسار الشرق" يضم مجموعات وأفراد "لا يحملون تفويضا من أهل الشرق، ولا يمثلون إلا تنظيمات حديثة التكوين لا تعدو أن تكون لافتات وواجهات لا وجود لها على أرض الواقع بشرق السودان".
كما أشار إلى خطورة تبني النهج القديم، الذي ثارت عليه الحكومات المتعاقبة، التي قال إنها "ظلت تراوغ أهل الشرق أحيانا بالتجاهل التام لمطالبهم التاريخية، وأحيانا أخرى بتقديم رشاوى سياسية وعقد صفقات مع أفراد وجماعات، أطلق على بعضها اتفاقيات سلام".
طبيعة الحركات المسلحة
ويشخص الباحث والمستشار القانوني عبدالمنعم الخير الشنداوي، أزمة السلام من خلال النظر إلى طبيعة الحركات المسلحة، التي ينحدر معظمها من مناطق ذات طابع إثني خاص، وأحيانا تتباين في داخل الإقليم الواحد.
ويعني ذلك، من وجهة نظره، تعدد مراكزها وتفاوتها في نوعية المطالب والمظالم، مما يجعل جهود السلام غير قادرة على استيعاب كل تلك التشعبات في بنية التفاوض والتحاور، فضلا عن أن جل الحركات لا تحوز على قبول مطلق من القواعد البشرية للمناطق التي حملت فيها السلاح، لنيل المطالب أو المكاسب.
ويشدد شنداوي على أن تعدد المسارات "يجعل الماعون السياسي المتصل بالمحاصصات المطروحة، أضيق كثيرا من الحجم المتاح".
كما يشير إلى أن المفاوضات الحالية تستند إلى "أسس من الجدال، تتجاوز كثيرا الواقع المتمثل في هياكل السلطة الانتقالية الحاكمة، التي لا ترتكز على دستور معياري إنما على وثيقة دستورية، فضلا عن عدم وجود قاعدة نيابية تشريعية تشارك في مناقشة القضايا المصيرية للدولة".