بلسان عربي، حرص بابا الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس، في ختام القداس بمدينة زايد الرياضية على توجيه الشكر للإمارات وأهل البلاد، ليختصر بكلماته البسيطة زيارة تاريخية استمرت 3 أيام، شهد العالم خلالها كتابة صفحة جديدة من تاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية.
وفي ختام القداس التاريخي بالعاصمة الإماراتية، الذي حضره نحو 180 ألف مؤمن توافدوا من عدة مناطق في الإمارات ودول الجوار، توجه البابا فرنسيس بالشكر إلى الإمارات عاصمة التسامح، وقال باللغة الإيطالية "أوجه الشكر إلى" قبل أن ينتقل إلى العربية قائلا "أولاد زايد في دار زايد".
وبذلك، أعرب بابا الكنيسة الكاثوليكية، من أبوظبي عاصمة الإمارات، عن شكره لأرض كانت في الأيام الثلاثة الماضية محط أنظار العالم الذي كان شاهدا على لحظة تاريخية تجسد رؤية المؤسس الشيخ زايد في التسامح، وتعكس حرص القيادة على السير قدما في هذا النهج وتعزيز السلام العالمي.
إذا من بدايتها إلى نهايتها، حفلت الزيارة باللحظات التاريخية، فرأس الكنيسة الكاثوليكية كان أول بابا يزور منطقة الخليج العربي، وساهم مع شيخ الأزهر، الإمام الأكبر أحمد الطيب، وبرعاية القيادة في الإمارات، على أحداث أقل ما يقال عنها إنها غير مسبوقة على صعيد العلاقة بين الأديان، لاسيما المسيحية والإسلام.
وحملت الزيارة معان سامية تجسد ثقافة الحوار ورسائل إنسانية تحمل في طياتها دعوة صريحة لـ"نشر ثقافة السلام واحترام الغير وتحقيق الرفاهية للبشرية جمعاء، بديلا من ثقافة الكراهية والظلم والعنف والدماء"، حسب ما أكد شيخ الأزهر في كلمته في صرح زايد المؤسس.
ويستعرض هذا التقرير أبرز الأحداث التاريخية التي شهدتها قمة "الأخوة الإنسانية" بين شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الكاثوليكية في الإمارات، بدءا من لحظة وصول القطبين الروحيين إلى أبوظبي، التي أكدت مرة أخرى على أن أرض جامعة لمختلف الأطياف والأعراق والديانات.
بيت واحد
البداية كانت من مطار الرئاسة في أبوظبي مساء الأحد، إذ وبعد أن استقبل ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد، شيخ الأزهر ومن ثم البابا فرنسيس، شهدت اللحظات اللاحقة حدثا رمزيا تمثل بانتقال الرجلين بالسيارة نفسها إلى "بيت واحد".
وكان حساب لقاء الأخوة الإنسانية المتابع للزيارة قد قال إن "التواضع والتسامح متمثلا في شخصيتين عظيمتين.. البابا فرنسيس والإمام الطيب يستقلان سيارة واحدة ويقيمان في بيت واحد.. يحدث لأول مرة في التاريخ على أرض الإمارات".
خطوة صغيرة ولكن رمزية كانت الفاتحة لأحداث تاريخية أخرى، بدأت بزيارة مشتركة للإمام الأكبر وبابا الكنيسة الكاثوليكية إلى جامع الشيخ زايد الكبير الذي يعد واحدا من أكبر المساجد في العالم، قبل أن ينتقلا لزيارة ضريح مؤسس الإمارات، الشيخ زايد بن سلطان، مستذكرين إرثه ونهجه الحكيم الذي ساهم في تعزيز الثقافة والتسامح والتعايش والسلام بين مختلف شعوب العالم.
لقاء السلام في جامع الشيخ زايد
وكانت هذه الزيارة المشتركة لافتة، نظرا للرسالة الحضارية التي يحملها الجامع الداعية للتعايش والتسامح والانفتاح، بالإضافة إلى الدور الكبير الذي يقوم به مركز جامع الشيخ زايد الكبير في التعريف بالثقافة الإسلامية السمحة، وتعزيز التواصل الحضاري بين مختلف الثقافات والشعوب حول العالم.
ومن مسجد الشيخ زايد انتقل الضيفان الكبيران إلى صرح زايد المؤسس، حيث كانت اللحظة التاريخية الفارقة حين وقع البابا فرنسيس والإمام الأكبر "وثيقة الأخوة الإنسانية"، وذلك بحضور نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد، وولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد.
الوثيقة التاريخية
كما شهد أكثر من 400 من قيادات وممثلي الأديان وشخصيات ثقافية وفكرية من مختلف دول العالم، توقيع الوثيقة التاريخية التي تهدف إلى تعزيز العلاقات الإنسانية وبناء جسور التواصل والتآلف والمحبة بين الشعوب إلى جانب التصدي للتطرف وسلبياته.
وتهدف الوثيقة إلى أن تكون "إعلانا مشتركا عن نوايا صالحة وصادقة من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيمانا بالله وإيمانا بالأخوة الإنسانية أن يتوحدوا ويعملوا معا من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلا للأجيال القادمة، يأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل، في جو من إدراك النعمة الإلهية الكبرى التي جعلت من الخلق جميعا إخوة".
جائزة الأخوة الإنسانية.. ومخاطبة الضمير المسيحي والإسلامي
وتقديرا لهذه اللحظة الفارقة، أعلن الشيخ محمد بن راشد عن إطلاق الإمارات "جائزة الأخوة الإنسانية - من دار زايد"، قبل أن يكشف عن قرار منح الجائزة في دورتها الأولى للبابا فرنسيس والإمام الأكبر تقديرا "لجهودهما المباركة في نشر السلام في العالم".
وفي كلمته خلال حفل توقيع الوثيقة، كان شيخ الأزهر واضحا في التأكيد على هذه الرسالة، حين دعا المسلمين في الشرق الأوسط إلى "احتضان" الطوائف المسيحية في دولهم، قبل أن يوجه حديثه للمسيحيين قائلا "أنتم جزء من هذه الأمة وأنتم مواطنون ولستم أقلية وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقلية الكريه، فأنتم مواطنون كاملوا الحقوق والمسؤوليات".
أما البابا فرنسيس، فقد قال إن "شعار هذه الزيارة يتألف من حمامة تحمل غصن زيتون وإن السلام كي يحلق يحتاج إلى جناحين يرفعانه إنه يحتاج إلى جناحي التربية والعدالة"، مشيرا إلى أن "التربية -وأصل الكلمة اللاتيني يعني الاستخراج والاستخلاص- تتطلب أن نستخلص ونستخرج الموارد الثمينة في النفس".
ولتخليد الزيارة والحدث التاريخي المتمثل بإطلاق وثيقة "وثيقة الأخوة الإنسانية"، وقع الشيخ محمد بن راشد والشيخ محمد بن زايد والبابا فرنسيس وشيخ الأزهر على حجر الأساس لبناء كنيسة القديس فرنسيس ومسجد الإمام الأكبر أحمد الطيب في أبوظبي.
إذا شهد ختام اليوم الثاني إطلاق هذين المنارتين لإعلاء قيم التسامح والسمو الأخلاقي والتآخي الانساني في سماء الإمارات، التي تحتضن مقيمين من 200 جنسية، من مختلف الديانات والثقافات ما يعكس التنوع الحضاري والثقافي الذي تتميز به الدولة.
قداس.. للتاريخ
وفي اليوم الأخير، ترأس البابا فرنسيس، وفي أجواء من التسامح والمحبة والسلام تعبر عن مبادئ الأخوة الإنسانية التي تتبناها الإمارات، قداسا بابويا تاريخيا بمدينة زايد الرياضية في أبوظبي بحضور 180 ألفا من المقيمين في الدولة وخارجها، وهو الأول من نوعه في شبه الجزيرة العربية.
وتحمل إقامة هذا القداس التاريخي على أرض الإمارات، التي تحتض نحو مليون مقيم كاثوليكي من مختلف الجنسيات، دلالات مهمة، إذ يعكس نهج الدولة والتزامها بمبدأ التسامح، للتأكيد أن المعتقدات الدينية يمكنها أن تزدهر في بلد يعتنق التنوع الديني ويشجع التعايش ما بين الأديان المختلفة.
ولتكتمل صورة التسامح في أرض التسامح، تزامنت قمة القطبين مع فعاليات "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" الذي انطلق، الأحد، في قصر الإمارات بأبوظبي بتنظيم من مجلس حكماء المسلمين، بمشاركة قيادات دينية وشخصيات فكرية وإعلامية من مختلف دول العالم.
ويسعى المؤتمر إلى التصدي للتطرف الفكري وسلبياته وتعزيز العلاقات الإنسانية وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والعقائد المتعددة، تقوم على احترام الاختلاف وتساهم في إعادة بناء جسور التواصل والتعارف والتآلف والاحترام والمحبة ومواجهة التحديات التي تعترض طريق الإنسانية، للوصول إلى الأمان والاستقرار والسلام وتحقيق التعايش المنشود.
وكان الإمام الأكبر والبابا فرنسيس قد التقيا، الاثنين، بمجلس حكماء المسلمين في جامع الشيخ زايد الكبير، في أول مناسبة من نوعها تجمع بين بابا الكنيسة الكاثوليكية وأعضاء مجلس حكماء المسلمين الذي يترأسه شيخ الازهر.