حين يحدق المرء في واجهة مبنى حكومي بالمغرب، خلال الوقت الحالي، فإنه لا يجد اللغتين العربية والفرنسية فقط على غرار ما ظل مألوفا طيلة عقود، فإلى جانب حرف الضاد والأحرف اللاتينية أضحت ثمة لغة أخرى ثالثة للتعبير عن هوية البلاد المتنوعة؛ وهي الأمازيغية.
بموجب الدستور الجديد الذي تبناه المغرب في يوليو سنة 2011، صارت الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، وقبل هذه المحطة السياسية الفارقة كان المغرب قد اتخاذ عددا من الإجراءات المنصفة للثقافة الأمازيغية وسط ترحيب من نشطاء وجمعيات ثقافية.
خطاب مفصلي
ويقول متابعون إن خطاب الملك محمد السادس سنة 2001 والمعروف بخطاب أجدير نسبة إلى اسم البلدة التي ألقي منها (وسط المغرب)، كان توجيها مفصليا، فبعدما أشار العاهل إلى أهمية إنصاف المكون الأمازيغي تم إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالعاصمة الرباط.
ويرى باحثون في الشأن الأمازيغي، أن النخب التي تولت مناصب حكومية كبرى في مغرب ما بعد الاستقلال سنة 1956 سعت إلى إقصاء الثقافة الأمازيغية ونظرت إلى إنصاف هذا المكون من الهوية بمثابة تهديد للوحدة الوطنية الجامعة.
وموازاة مع عدم الاعتراف باللغة الأمازيغية، لم يكن مسموحا للآباء في البلاد أن يسجلوا مواليدهم بأسماء أمازيغية، لكن هذا الواقع تغير بشكل جذري قبل سنوات حين أصدرت وزارة الداخلية في البلاد قرارا حاسما يتيح إطلاق الأسماء الأمازيغية على الأطفال مثل "نوميديا" و"إيثري".
وفي هذا المسار التصالحي، أُطلق المغرب في سنة 2010 قناة تبث برامجها باللسان الأمازيغي فيما كان حضور هذه اللغة يقتصر على حصة زمنية لا تتعدى الدقائق على التلفزيون الرسمي، وبما أن في اللغة الأمازيغية ثلاث لهجات تختلف عن بعضها البعض بشكل لافت فقد كانت تسمى "نشرة اللهجات".
نقاش الهوية
في مجال التعليم، بدأ المغرب تدريس الأمازيغية بدءًا من موسم 2003-2004 في كافة مناطق البلاد، لكن هذه المادة ما تزال غير متاحة في كثير من المدارس بالنظر إلى قلة الأساتذة الذين يدرسونها فضلا عن وجود خصاص في الأطر التعليمية بالبلاد على مستوى عام.
ولم يمر هذا القرار بدوره دون أن يثير جدلا وانقساما ففي الوقت الذي دافع ناشطو الثقافة الأمازيغية على اعتماد حرف "تيفناغ" الذي يمتاز برسمه المتفرد، طالب البعض باعتماد الحرف العربي باعتباره معروفا بينما اقترح آخرون الحرف اللاتيني، وفي نهاية المطاف، استقر الخيار على "تيفيناغ".
وحين يُسأل من عارضوا تدريس الأمازيغية عن مسوغاتهم يقولون إن في إضافة هذه المادة إثقالا لكاهل التلميذ المغربي الذي يضطر منذ سن مبكرة إلى تعلم اللغة العربية الفصحى والفرنسية ثم الإنجليزية أو لغة أجنبية أخرى في مقام ثالث، لكن من يردون على هذا الرأي يؤكدون أن العملية التعليمية ليست تقديرا براغماتيا حتى يقال إن العلوم الدقيقة والعصرية هي الجديرة فقط بأن تنال العناية فالأمازيغية جزء من حضارة البلاد وثقافتها.
العرب والأمازيغ.. مسار تاريخي مشترك
وحظيت هذه الإجراءات المتوالية لتعزيز حضور الأمازيغية في مناحي الإعلام والثقافة بترحيب واسعا في المغرب على اعتبار أن هذه الخطوات تعزز اللحمة الوطنية، لاسيما أن العرب والأمازيغ ظلوا يعيشون بجانب بعضهم البعض طيلة قرون دون أي عقبات، أما المشكل القائم فكان سياسيا بالدرجة الأولى بالنظر إلى الرفض الذي حصل في فترة سابقة لإقرار بعض الحقوق الثقافية.
ويرى الباحث أحمد عصيد، أن الاستعمار الفرنسي لبلدان شمال أفريقيا كان له أثر واضح، فنموذج الدولة الذي قام بإرسائه من مبدأ "التشابه" ونبذ الاختلاف والنظر إليها بمثابة خطر يهدد الدولة المركزية وهو ما جعل كثيرين ينظرون إلى مسألة الحقوق بمثابة مدخل للفرقة.
ويصف عصيد الإيديلوجيات التي عارضت إقرار الحقوق الثقافية الأمازيغية بـ"الاختزالية" على اعتبار أنها سعت بشكل متعمد إلى طمس آلاف السنين من الإنتاج الحضاري، لكن المناوئين ما عادوا يجاهرون برفضهم للثقافة الأمازيغية، حسب الباحث الذي أصدر في سنة 1998 كتابه "الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي".
موازاة مع ذلك، هاجمت أصوات من تيار "الإسلام السياسي" حركات الثقافة الأمازيغية واعتبرتها بمثابة مؤامرة خارجية على الهوية الأم وإغفال لمفهوم "الأمة" التي يفترض أن تكون جامعة بحسب هذه الحركات الأصوالية
ولم تأت هذه الخطوة الأمازيغية معزولة عن السياق، فالدستور الجديد في المغرب أشار إلى الروافد المتنوعة للثقافة المغربية سواء تعلق الأمر بالمكون الحساني (الصحراوي) في الجنوب أو بالموريسكي نسبة إلى سكان الأندلس الذين قدموا إلى المغرب عقب سقوط دولتهم عقب ثمانية قرون من الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية.