في مشهد سياسي متأزم يعكس طبيعة التوازنات الهشة في لبنان، بدأ القاضي نواف سلام مشاوراته لتشكيل حكومة جديدة بعد تكليفه من الرئيس اللبناني جوزيف عون.
تكليف سلام، الذي يحظى بدعم محلي ودولي متباين، يُنظر إليه كاختبار جديد للنظام السياسي في لبنان، الذي يعاني من أزمات سياسية واقتصادية خانقة. لكن، هل يمثل هذا التكليف بداية تغيير حقيقي أم استمرارية للمأزق اللبناني المزمن؟
إعادة توزيع الأدوار السياسية
مجيء نواف سلام يحمل في طياته دلالات سياسية كبيرة، أبرزها التراجع النسبي لقوة الثنائي الشيعي التقليدي، المتمثل في حزب الله وحركة أمل.
هذا التراجع يعكس تغييرًا في ديناميكيات السلطة، حيث أصبح من الواضح أن قوة الفاعلين الدوليين والإقليميين باتت تلعب دورًا أكبر في توجيه المشهد اللبناني.
رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، محمد رعد، علق على التكليف بقوله: "سنراقب بهدوء وحكمة الجهود المبذولة لتشكيل الحكومة". هذا التصريح يُظهر موقفًا حذرًا من حزب الله، الذي يدرك أن المرحلة المقبلة قد تتطلب مرونة في التعاطي مع التطورات السياسية، لا سيما في ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة.
التحديات الداخلية.. مأزق المحاصصة الطائفية
وأبرز العقبات أمام نواف سلام تكمن في نظام المحاصصة الطائفية الراسخ في لبنان. محلل الشؤون الأميركية في "سكاي نيوز عربية"، موفق حرب، يرى أن "لبنان نظام طائفي ومحاصصاتي، والتحدي الأكبر للرئيس المكلف هو التعامل مع هذا الواقع". تشكيل حكومة جديدة في ظل هذه الظروف يعني الدخول في مفاوضات شاقة مع الأطراف السياسية والطائفية المختلفة، التي تسعى كل منها لتعزيز موقعها ضمن التوازنات الجديدة.
من جهة أخرى، يبرز سؤال الثلث المعطل كواحد من أهم النقاط الخلافية. هذا التقليد السياسي، الذي يمنح أطرافًا معينة القدرة على تعطيل القرارات الكبرى، يُعتبر أحد أبرز معوقات تشكيل حكومات فعالة وقادرة على العمل.
الدعم الدولي.. فرص وشروط
التكليف لم يمر دون ترحيب دولي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف تعيين سلام بأنه "أمل في التغيير"، مشيرًا إلى أن تشكيل حكومة جديدة قد يكون خطوة أولى نحو استعادة الثقة الدولية في لبنان. لكن هذا الدعم مشروط بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية.
وفقًا لموفق حرب، فإن "المجتمع الدولي يتطلب التزام اللبنانيين بمواصفات معينة لاستعادة الثقة". تشمل هذه المطالب مكافحة الفساد، تحسين إدارة الموارد، وضمان شفافية العملية السياسية. سلام يُعد شخصية إصلاحية ذات سمعة دولية جيدة، لكن التحدي يكمن في مدى قدرته على تحقيق هذه الشروط وسط نظام سياسي متجذر في الفساد والمحاصصة.
التحدي الاقتصادي.. الحاضر الأكبر
لا يمكن فصل الأزمة السياسية عن الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد. لبنان يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، مع انهيار العملة الوطنية وانتشار الفقر والجوع. الحكومة الجديدة ستكون مطالبة بوضع خطة اقتصادية متكاملة بالتعاون مع المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي.
ويرى إبراهيم بيرم، الباحث السياسي أن الفساد وسوء الإدارة أدّيا إلى وصول شخصيات مثل العماد جوزيف عون ونواف سلام، لكن التغيير الحقيقي يتطلب إصلاحًا جذريًا في بنية النظام. هذا الإصلاح يشمل إعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية، تحسين النظام المصرفي، وضمان العدالة الاجتماعية.
هل يمكن أن ينجح سلام؟
رغم الآمال الكبيرة المعلقة على نواف سلام، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى قدرته على تجاوز إرث الطبقة السياسية القديمة. بيرم يشير إلى أن "نواف سلام، رغم سمعته الإصلاحية، ليس تمامًا خارج النظام السياسي التقليدي، حيث ارتبط بفترة من حكم تيار المستقبل". هذا الانتماء السياسي قد يثير تساؤلات حول قدرته على اتخاذ قرارات جريئة ومستقلة.
تكليف نواف سلام يمثل فرصة فريدة للبنان للخروج من أزماته المستعصية، لكنه أيضًا اختبار حقيقي للنظام السياسي الذي ثبت فشله مرارًا في تحقيق التغيير. النجاح يتطلب توافقًا داخليًا ودعمًا دوليًا، لكن الأهم هو إرادة سياسية صادقة للتخلي عن ممارسات المحاصصة والفساد.
لبنان يقف اليوم عند مفترق طرق جديد، فإما أن يكون تكليف سلام بداية لإصلاحات حقيقية تنقذ البلاد من انهيار شامل، أو يتحول إلى تجربة أخرى تُضاف إلى قائمة طويلة من الإخفاقات السياسية؟. الوقت فقط كفيل بالإجابة عن هذا السؤال.