فتح الانهيار السريع والمفاجئ لنظام حكم الرئيس بشار الأسد في سوريا الباب أمام تساؤلات الجميع عن الرابحين والخاسرين من هذا السقوط، وتداعيات ذلك على المنطقة وما ورائها.
وفي تحليل نشرته مجلة "ناشونال إنتريست" الأميركية قال المحلل الأميركي هنري باركي أستاذ فخري العلاقات الدولية في جامعة ليهاي والباحث في دراسات الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية إن "قائمة الرابحين من سقوط نظام حكم الأسد تبدأ بتركيا وتضم إسرائيل ولبنان وربما دول أخرى في العالم العربي، ناهيك عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي".
لكن الوقت مازال مبكرا للغاية للتنبؤ بالتطورات المستقبلية في سوريا التي ستكون خلال المرحلة المقبلة ساحة لتدخل عدد من اللاعبين الدوليين والإقليميين في مقدمتهم الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل.
وقد أظهرت الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم أن هذه الصراعات الحادة غالبا ما تطلق سلسلة من النتائج غير المرغوبة.
وتعود هذه النتائج غالبا إما للتكوينات المجتمعية، أو للقرارات غير المدروسة التي اتخذها القادة، أو إلى كليهما.
ويمكن أن تُعزى التطورات السورية الحالية جزئياً إلى هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 والحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ ذلك اليوم.
فقد قررت إيران ووكيلها في لبنان، حزب الله، على الفور دعم حماس بقصف شمال إسرائيل وإجبار عشرات الآلاف من الإسرائيليين على النزوح منه.
وفي نهاية المطاف، أدى القصف الذي استمر لمدة عام إلى رد فعل إسرائيلي مضاد مدمر أضعف كل من إيران وحزب الله بشدة، وجعلهما غير قادرين على دعم بشار الأسد كما كانا في الماضي.
وتشير التقارير القادمة من سوريا إلى أن قوات المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، فوجئت بالسرعة التي انهار بها نظام الحكم السوري وتبخر جيشه.
وهذا يشير إلى حاجة المجتمع الدولي وجيران سوريا إلى ممارسة أقصى درجات الحذر في تعاملهم مع سقوط نظام الحكم وتقديم الدعم للشعب السوري.
فالمعروف عن طبيعة هيئة تحرير الشام قليل، وهي منظمة مسلحة جذروها تعود إلى تنظيمي القاعدة وجبهة النصرة، وهذان التنظيمان الجهاديان المتشددان تسببا في الكثير من الفوضى والعنف والبؤس في سوريا.
كما أن هيئة تحرير الشام ليست الجماعة المسلحة الوحيدة في سوريا، حيث يمكن للظروف الاقتصادية المزرية في البلاد أن تفجر العنف مرة أخرى بسهولة.
دور تركيا وإسرائيل
ومن الخارج انخرط زعيمان من دولتين مجاورتين في تصرفات من شأنها تقويض الحكومة السورية الجديدة.
فقد أصدر بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل توجيهات للجيش الإسرائيلي بعبور الحدود مع سوريا واحتلال مساحات واسعة من أراضيها.
كما أمر بتنفيذ حملة تدمير شاملة لكل مقدرات الجيش السوري بدعوى القلق من وقوعها في أيدي الجماعات المسلحة.
كما قررت الحكومة الإسرائيلية مضاعفة نشاط الاستيطان في هضبة الجولان السورية المحتلة.
ولم يمد نتنياهو المتبجح على حد وصف هنري باركي يده للشعب السوري بل استخدم لغة صارمة وعدائية لا بد أن تثير غضب الزعماء السوريين الجدد، بل وتزيد من الشكوك والعداء لإسرائيل في المنطقة، لأن الزعيم الإسرائيلي مهتم إلى حد كبير باستغلال سوريا لتعزيز موقفه الهش في الداخل، الذي تضرر من إدارته للحرب في غزة وتعامله مع قضية المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية في القطاع ومحاكمته بتهم الفساد.
أما الزعيم الثاني فهو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يسعى أيضا لتحقيق أهدافه الخاصة في سوريا، حيث وجه الجيش الوطني السوري وهو فصيل مسلح يسيطر عليه، لمهاجمة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية في شمال سوريا.
كما أن السلطات الجديدة في دمشق قالت إنها لن تتسامح مع أي مجموعات مسلحة خارج سيطرة الحكومة المركزية.
وتعتبر تركيا قوات قسد منظمة إرهابية، في حين أنها تشكل المحور الرئيسي للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة منذ عشر سنوات لهزيمة تنظيم داعش في سوريا واحتوائه.
كما أن تركيا، ترى قسد تهديدا استراتيجيا لأنها تخشى من نجاحها في الحصول على أي شكل من أشكال الحكم الذاتي لأكراد سوريا على الأقلية الكردية في تركيا، وهو ما جعل الأخيرة تتحدث عن استعدادها للتدخل العسكري في سوريا للقضاء على هذا التهديد، في حين تتحدث تقارير عن وساطة أمريكية لوقف إطلاق النار بين قسد والأتراك.
دور "الفصل" للولايات المتحدة
كل هذا يعني أن واشنطن ستظل القوة الوحيدة القادرة على إدارة علاقات القوة بين اللاعبين في الساحة السورية واستمرار مطاردة تنظيم داعش.
وهذه من بين الأسباب الخارجية التي تفرض على الولايات المتحدة، وعلى عكس رغبات الرئيس القادم دونالد ترامب، استمرار انخراطها في سوريا والشرق الأوسط الأوسع، فالحكومة السورية الجديدة تواجه مهمة ضخمة لإعادة بناء الدول المتداعية والاقتصاد المدمر، في حين أن الولايات المتحدة تمثل حاليا عقبة أمامها.
فواشنطن وحلفاؤها الغربيون يدرجون هيئة تحرير الشام وزعيمها رئيس السلطة الحالية في سوريا أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني سابقا على قوائم الإرهاب، وهذا الإدراج إلى جانب العقوبات المفروضة على سوريا تجعل من الصعب جدا على الشركات الدولية أو الدول الأخرى التعامل مع الحكام الجدد في دمشق.
ويرى هنري باركي أن الإطاحة بحكم الأسد مع هزيمة إيران وحزب الله وفقدان روسيا لنفوذها في سوريا تمثل فرصة لا تتاح إلا كل جيل.
فالنظام الإيراني أقام شبكة حلفاء قوية سمحت له بحماية نفسه ومواصلة سياساته القمعية في الداخل، والآن لم يعد من هؤلاء الحلفاء إلا المليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن. لذلك سيكون من المؤسف أن تنسحب واشنطن من الملف السوري فتسمح لإيران بإعادة تشكيل محورها أو للروس باستعادة نفوذهم. فالولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على منع هذا السيناريو حاليا.
ولا يوجد أي سبب يدعو واشنطن إلى عدم الاستفادة من مثل هذه الظروف المواتية، وخاصة في ظل إعادة تشكيل توازن القوى الإقليمي على نحو جذري.
ويتوقع الجميع تقريبا في المنطقة، من الأقليات في سوريا مثل الأكراد والعلويين والمسيحيين إلى كل الدول، من الأعداء إلى الحلفاء، أن تظل الولايات المتحدة منخرطة في سوريا.
وربما تكون المنطقة مستعدة لدفعة حقيقية من أجل السلام الشامل، لكن من المفارقات العجيبة أن تركيا ونتنياهو (وليس إسرائيل) هما الوحيدان اللذان لا يرغبان في رؤية واشنطن تقوم بهذا هذا الدور.