تؤكد دلائل علمية متزايدة أن هناك "مجالات كهربائية جنينية" تتحكم في حركة الخلايا أثناء تكون الجنين داخل رحم الأم، من أجل توجيه تطور ونمو الأنسجة والأعضاء، ولكن طريقة تكوين هذه الحقول الكهربائية وآليات عملها ظلت غير واضحة تماما لدى العلماء والباحثين لفترة طويلة من الوقت، إلى أن نجح فريق من الباحثين في البرتغال في سبر أغوار هذه المجالات الكهربائية الحيوية وتحديد دورها في المراحل المختلفة لنمو الأجنة.
ويقول الباحث إلياس إتش. باريغا من معهد غولبنكيان للأبحاث العلمية في البرتغال ورئيس فريق الدراسة: "لقد نجحنا في تحديد نمط التيار الكهربائي الحيوي الداخلي، الذي يشبه الحقل الكهربائي، أثناء عملية نمو الجنين، واتضح لنا أن هذا التيار الكهربائي يقوم بتوجيه حركة مجموعة من الخلايا تعرف باسم العرف العصبي داخل الجنين".
وأوضح الباحثون أن "العرف العصبي" يعتبر من المكونات الأساسية في عملية تكون الجنين، حيث أن هذه الخلايا مسؤولة عن نمو عظام الوجه والعنق، فضلا عن أجزاء من النظام العصبي.
وتوصل الباحث باريغا، في إطار الدراسة التي نشرتها الدورية العلمية "Nature Materials" المعنية بالأبحاث العلمية، أنه أثناء عملية النمو، يتم توجيه خلايا العرف العصبي بواسطة مجالات كهربائية داخلية، مثل سائق السيارة الذي يستجيب لإشارات رجل المرور.
وتبين للباحثين أنه في إطار هذه العملية التي تعرف باسم "آلية توجيه الخلايا عبر الإشارات الكهربائية"، تستشعر الخلايا اتجاه الحركة الصحيح بواسطة حقول كهربائية يتم توليدها داخل جسم الجنين، وتتحرك بناء على هذه الإشارات.
وتبادر لدى الباحثين السؤال بشأن كيف تستطيع الخلايا فك شفرة هذا التيار الكهربائي وتحويلها إلى اتجاه أو مسار للحركة، ويقول الطبيب باريغا إنه تعرف مع فريقه البحثي على إنزيم داخل العرف العصبي يعرف باسم (Vsp 1) ويحتوي على مادة الفوسفاتيز ويتميز بحساسية خاصة حيال التيارات الكهربائية. وبفضل الخواص الحيوية لهذا الإنزيم، فهو يستطيع استشعار الإشارات الكهربائية وبثها أيضا.
ومن أجل التحقق من دور هذا الإنزيم في توجيه الخلايا، قام الباحثون بتصنيع نسخة معيبة من الانزيم، وتأكد لديهم أن النسخة المعيبة تعطل حركة الخلايا أثناء نمو الأجنة.
وتقول الباحثة صوفيا موريرا الحاصلة على الدكتوراة وإحدى المشاركات في الدراسة: "لقد حققنا نتائج مجزية من خلال استهداف التركيب الوراثي لهذا الإنزيم في سياق التحكم في الخلايا بالحقول الكهربائية".
وأضافت في تصريحات للموقع الإلكتروني "سايتيك ديلي" المتخصص في الأبحاث العلمية: "بعكس التوقعات، تبين أن إنزيم Vsp 1 ليس مسؤولا عن حركة الخلايا، بل عن تحويل التيار الكهربائي إلى إشارات لتحديد اتجاه حركة الخلايا أثناء تكون أنسجة وأعضاء الأجنة. وترى موريرا أن هذه الملاحظة العلمية فريدة من نوعها، لأن معظم مستشعرات الإنزيمات تلعب دورا في حركة الخلايا ذاتها، وكان من الصعب دراسة دورها في لية التوجيه.
وعكف الفريق البحثي على محاولة تحديد مصدر نشأة الحقول الكهربائية داخل جسم الجنين من خلال دراسة منطقة تعرف باسم "الطية العصبية"، واتضح لهم أن الخلايا في هذه المنطقة تتمدد مما يؤدي إلى تنشيط قنوات من الأيونات، وهي ذرات أو جزيئات مشحونة كهربائية، وتساعد في توليد المجال الكهربائي، وأن انزيم Vsp 1 هو الذي يقوم بتحويل الإشارة الكهربائية إلى شفرة توجيه لإرشاد الخلايا نحو اتجاه الحركة.
ويؤكد الباحثون أن هذا البحث يقدم أول دليل علمي بالتجربة على أن الحقول الكهربائية تتكون على امتداد مسار الخلايا في العرف العصبي، وأثناء عملية يطلق عليها اسم "هجرة الخلايا"، فضلا عن توضيح مصدر توليد هذا التيار الكهربائي، كما أن هذه الفرضية العلمية الخاصة بدور الحقول الكهربائية في توجيه الخلايا تفتح الباب على مصراعيه أمام إمكانية تكرار نفس هذه العملية البيولوجية في المختبرات العلمية وتطويعها لخدمة مباحث علمية وطبية مختلفة، بدرجة من الدقة تفوق أي تجارب سابقة.
ويقول الباحث فيرناندو فيريراوهو أحد المشاركين في الدراسة، في تصريحات لموقع "سايتك ديلي" إن "هذه الورقة البحثية تجيب عن أسئلة مطروحة منذ عقود في مجال أبحاث الكهرباء البيولوجية، وقد حققت نتائج مجزية للغاية في مجال نشأة علوم الكهرباء الحيوية"، رغم أن الدراسات بشآن آليات التوجيه الكهربائي للخلايا ما زالت مستمرة.
وذكر الطبيب باريغا: "لقد أزحنا النقاب عن لاعب آخر في عملية تكون أنسجة الأجنة، والسؤال يدور الآن بشأن تحديد موقع هذه الآلية في إطار منظومة المؤشرات الميكانيكية والكيميائية أثناء تكون الجنين".
ويرى الباحثون أنه من الممكن أيضا دراسة دور هذه الآلية في مجالات طبية أخرى مثل تطور الأورام السرطانية أو التئام الجروح، كما أن فهم دور الحقول الكهربائية في توجيه هجرة الخلايا يتيح إمكانية وضع استراتيجيات جديدة في مجال هندسة الأنسجة والطب التوليدي، غير أنه مازال ينبغي توسيع مجالات البحث بشأن دور الحقول الكهربائية في مجال السلوك الخلوي، وزيادة الفهم البشري لدور علوم الفيزياء في الأنظمة الحية.