بعد نحو عام من النزوح إلى ولاية نهر النيل شمال العاصمة الخرطوم، قررت أسرة عبد الله محمد العودة إلى منزلها في أحياء الثورات بمدينة أم درمان على أمل الاستقرار في منزلها الذي تحطمت أجزاء كبيرة منه، ولم يعد فيه شيئا من الأثاث، لكن بعد أيام من وصولها تفاجأت بوضع مغاير لما كانت تسمع عنه في وسائط الإعلام من عودة الهدوء الى منطقتها.
ففي اليوم الثالث من عودتها سقطت أكثر من 10 قذائف في الحي قضت إحداهما على أسرة كاملة في البيت المجاور. ولم تجد أسرة محمد بدا من البحث عن مخرج جديد إلى منطقة آمنة في ظل انحسار الملاذات الآمنة بسبب انتشار القتال في أكثر من 70 في المئة من مناطق البلاد، بعد أن كان محصورا فقط في العاصمة وقت نزوح الأسرة الأول.
قصف عشوائي
وتشهد العديد من مناطق أم درمان عمليات قصف عشوائي مكثف من طرفي القتال، ما أودى بحياة أكثر من 150 شخصا خلال الأيام الخمس الماضية، بينهم أسر بكاملها.
وطال القصف أحياء كررى والثورات ومناطق أمبدة في غرب المدينة، محدثا أضرار بالغة بالممتلكات ورعب شديد في أوساط السكان نتيجة سقوط "دانات" ومواد متفجرة في منازلهم.
ومنذ الأسابيع الأولى من اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم منتصف أبريل 2023، ظلت السيطرة على مدينة أم درمان تشكل هدفا استراتيجيا لطرفي القتال.
الآن وبعد مرور نحو 14 شهرا من القتال، لم يستطع أيا من الطرفين فرض السيطرة الكاملة على المدينة. وحتى الآن يتقاسم الطرفان السيطرة، ففي حين يسيطر الجيش على شمال وشرق المدينة، تتواجد قوات الدعم السريع بكثافة في جنوب وغرب المدينة.
وبعد توقف دام خلال الأسابيع التي أعقبت إعادة الجيش السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون القومي في وسط المدينة في ديسمبر الماضي، شهد الأسبوعان الماضيان احتدام العمليات العسكرية الكبيرة في عدد من مناطق أم درمان، لكن لم تتغير حتى الآن خارطة السيطرة في المدينة.
وفي حين كثف الجيش السوداني من غاراته الجوية، استمرت قوات الدعم السريع في تبادل القصف المدفعي معه في عدد من المناطق العسكرية، إضافة لأحياء كرري في شمال غرب المدينة والعباسية وبانت في الوسط.
دمار كبير
لا تزال معظم أحياء أم درمان القديمة مهجورة، وتبدو عليها آثار الحرب بشكل واضح حيث تتساقط أعمدة الكهرباء على طول الشوارع، وتنتشر روائح البارود والجثامين المدفونة داخل الأحياء.
وتحولت الأسواق الرئيسية إلى ركام بعد أن تعرضت للحرق والنهب وسوي أكثر من 40 في المئة من المحلات التجارية بالأرض تماما. كما تنتشر في الشوارع آلاف السيارات المحروقة والتي خلعت اجزاؤها بشكل كلي.
ووفقا لوجدي عيسى الذي تمكن مطلع مايو من التسلل عبر طرق وعرة والوصول إلى بيته في أحد احياء وسط المدينة لمحاولة تجميع بعض المستندات التي تركها عندما فر من القتال قبل 10 أشهر، فإن الدمار الذي لحق بالمدينة كبير للغاية.
ويوضح في حديث لموقع سكاي نيوز عربية "طوال رحلتي التي قطعت فيها مسافة تقل عن 200 كيلومترا في 4 أيام كاملة، كانت مشاهد الدمار تدمي القلب (...) كل شيء تحطم (...) مظاهر الحياة تنعدم تماما وحتى المجبرين على البقاء خائفون وحائرون من امرهم، والبعض يبدو متصالحا مع خيار البقاء لكن الرصاص يتساقط من كل جانب".
أوضاع صعبة
يعيش العالقون والعائدون إلى المدينة أزمات حادة في مياه الشرب والمواد الغذائية التي تضاعفت أسعار بعضها بأكثر من 400 في المئة في ظل ندرة شديدة في السيولة بعد أن فقد أكثر من 80 في المئة من السكان المتواجدين مصادر دخلهم الأساسية، ويزداد الأمر تعقيدا في ظل الانقطاع المتواصل لخدمات الاتصالات والكهرباء وخروج معظم المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة.
وتشهد المدينة حملة اعتقالات واسعة في مناطق سيطرة الطرفين وتستهدف بشكل أساسي اعضاء لجان الطوارئ والناشطين المدنيين، والعديد المواطنين الذين يتعرضون للاعتقال لمجرد الاشتباه في شكلهم بحسب رؤية أيا من طرفي القتال.
ويقول أحد العائدين "كنت أقيم خارج البلاد منذ بدء الحرب، ولكني قررت في منتصف أبريل العودة إلى منزلي في أم درمان والوقوف على أحوال بيت الأسرة الذي وصلت اليه بعد رحلة محفوفة بالمخاطر وصلت لمنزلي".
ويضيف "لم أجد من البيت سوى الأرض وبعض الحوائط، فقد تحطم كل شيء وتعرضت كل مقتنيات البيت للسرقة والتخريب (...) وبعد تعرضي للتوقيف والتهديد مرات عديدة من قبل عناصر الطرفين اقتنعت تماما بأنني اتخذت القرار الخاطئ وأن الحياة في أم درمان أصبحت خطيرة على الأقل في الوقت الحالي، فعاودت رحلة النزوح مجددا".