سلطت مجلة "فورين أفيرز" في تقرير لها الضوء على ضرورة تعلم الإدارة السورية الجديدة والدول التي تتعاطى معها من درس سابق وهو عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان عام 2021.
فبعد استيلاء طالبان على كابل، تعثرت أفغانستان تحت وطأة العقوبات والعزلة الاقتصادية والدبلوماسية.
وفشلت الحكومات الأخرى في التصرف بالسرعة والجرأة الكافيتين لتخفيف أزمة الفقر في البلاد، وتركت العقوبات الاقتصادية التي لم يكن لها تأثير معتدل على طالبان ولكنها دفعت الأفغان إلى ما يقارب المجاعة.
ورفضت معظم البلدان التفاوض مع طالبان بطريقة ربما كانت لتعزز حقوق المرأة وغيرها من المعايير الدولية، واختارت بدلا من ذلك الانتظار ومعرفة ما إذا كان قادة أفغانستان الجدد سيفعلون ذلك بمفردهم.
ولقد كان هذا الإحجام عن التعامل مع طالبان بمثابة ضربة للجناح البراغماتي في الحركة، مما أدى إلى تمكين المتشددين خلال الأشهر الأولى الهشة من حكم النظام.
وشجعت هيئة تحرير الشام هذا التواصل من خلال إظهار المرونة السياسية والأيديولوجية التي تميزها عن طالبان، بحسب المجلة.
ومع ذلك، من المؤسف أن الجهات الفاعلة الخارجية تبدو على استعداد لتكرار العديد من الأخطاء نفسها التي ارتكبتها في أفغانستان بعد استيلاء طالبان على السلطة.
إن الحكومات الغربية لديها مصلحة قوية في التعلم من أخطائها في أفغانستان، لأن الأزمة المطولة في سوريا من المرجح أن تمتد إلى بقية الشرق الأوسط، وتقوض النفوذ الغربي في المنطقة، وتجبر المزيد من الناس على الفرار من البلاد.
وإذا ما تباطأ الغرب، فقد يدفع البلاد نحو الانهيار ويبدد نافذة الفرصة القصيرة لإقناع المتمردين السابقين باتباع المسار الصحيح.
دروس التاريخ
من المستحيل حساب الدرجة التي أثرت بها الإجراءات الخارجية على أفغانستان بعد استيلاء طالبان على السلطة في أغسطس 2021.
ولا أحد يستطيع فصل آثار السياسات الدولية عن تأثير سوء حكم طالبان الرهيب، ولكن هناك درسان وثيقا الصلة بالحالة السورية يبرزان من تاريخ أفغانستان الحديث.
الأول هو أن الجهات الفاعلة الدولية تحركت ببطء شديد في الحالة الأفغانية لتخفيف المعاناة الإنسانية، وخاصة الآثار المفقرة الناجمة عن عقوباتها الخاصة، والقيود المصرفية، وغير ذلك من السياسات الاقتصادية.
فقد فرضت الولايات المتحدة والأمم المتحدة وكيانات أخرى عقوبات على طالبان في البداية في تسعينيات القرن العشرين، ثم شددتها بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001.
ولكن هذا الإرث من القيود المفروضة على طالبان أدان فعليا البلد بأكمله بعد أن استولت الحركة على الحكومة.
وهناك درس ثانٍ ينبغي لنا أن نتعلمه أيضاً من فشل الغرب في إعطاء طالبان الوضوح الكافي حول كيفية اكتساب الاعتراف الدبلوماسي والتخلص من العقوبات.
ورغم أن الجهات الفاعلة الأجنبية تحدثت عن الحاجة إلى الاستقرار واتخذت بعض التدابير لتخفيف الأزمة الاقتصادية، فإن المشاركات الدولية ظلت محدودة بسبب إحجام الغرب عن اتخاذ أي خطوات قد تمنح الشرعية لقادة كابل الجدد.
وقد قدمت الحكومات الغربية مطالب غامضة بشأن احترام حقوق المرأة وتشكيل حكومة "شاملة"، وهو مصطلح حسن نية ولكنه غامض تتداوله الآن الجهات الفاعلة الدولية التي تناقش مستقبل سوريا، ولكنها لم تحدد المقابل.
يعترض بعض الدبلوماسيين على فكرة المساومة مع طالبان، قائلين إن حقوق النساء والفتيات غير قابلة للتفاوض، لكن مثل هذا النهج لم يتم اختباره بشكل صحيح أبدًا، وفي غياب أي احتمال حقيقي لتقديم تنازلات جدية من جانب الدول الغربية، أصبحت حركة طالبان متشككة بشأن قدرتها على اكتساب الشرعية على الساحة العالمية.
مثل طالبان، يأتي زعماء سوريا الجدد من خلفية متشددة، فهيئة تحرير الشام ظهرت في عام 2017 بعد تشكيل تحالف من عدة مجموعات مسلحة حول فصيل متشدد يسمى جبهة النصرة، الذي أسسه في سوريا أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام الحالي.
نقاط اختلاف
في جوانب حاسمة، لا تشبه هيئة تحرير الشام طالبان، حيث ولد زعيم طالبان في قرى محاطة بجدران طينية، ويدعو إلى التعليم الديني الصارم.
وعلى النقيض من ذلك، ظهر قادة هيئة تحرير الشام، على الرغم من التزامهم الديني، من المدن الحديثة في سوريا، وتخرجوا غالبًا من الجامعات، ويريدون المزيد من الروابط العالمية.
ولطالما سعت الجماعة إلى التخلص من روابطها بأعداء الغرب، وقد شنت هيئة تحرير الشام حملة صارمة على "حراس الدين"، وهي جماعة تابعة لتنظيم القاعدة في شمال غرب سوريا.
كما قمعت الجماعة مقاتلي داعش في سوريا بشكل أكثر صرامة، واعتقلتهم وأعدمتهم في بعض الأحيان علنا، وتتعهد بمواصلة محاربة داعش في شرق سوريا.
وعلاوة على ذلك، أمضت الهيئة سنوات في صد هجمات من عدوين قديمين للغرب هما بشار الأسد وروسيا.
وشهد انتصارها سقوط عدوين أميركيين، في حين جسد فوز طالبان الهزيمة الأميركية.
كما يتمتع القادة الجدد في سوريا بسجل حكم أكثر اعتدالا، فعندما حكمت هيئة تحرير الشام محافظة إدلب ــ المحافظة التي تسيطر عليها منذ عام 2017 ــ حافظت على القيود المفروضة على بعض الديانات غير الإسلامية التي فرضتها الفصائل الحاكمة السابقة، مثل إسكات أجراس الكنائس.
وتهيمن العناصر الدينية المحافظة على قيادة طالبان، لكن هيئة تحرير الشام نجحت في إضعاف شيوخها الأكثر تطرفا، وتتفاخر الجماعة بسجلها في تعزيز التعليم للفتيات من جميع الأعمار، وإن كان ذلك من خلال فصول منفصلة حسب الجنس.
ومنذ الاستيلاء على دمشق، تبنت الإدارة الجديدة نبرة تصالحية بشكل ملحوظ، وتعهدت هيئة تحرير الشام باحترام حقوق المسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات.
كما عين قادة سوريا الجدد مؤخراً نساء في مناصب قيادية، بما في ذلك رئاسة إدارة شؤون المرأة والبنك المركزي السوري.
ولكن الخطاب المعتدل لهيئة تحرير الشام وأفعالها قد تجد جمهوراً متشككاً في مختلف أنحاء العالم بسبب انتماءات الجماعة السابقة والأسئلة المتبقية حول كيفية تمكنها من حكم بلد كبير.
فخ الفقر
ما لم يتم التعامل مع الفقر بسرعة، فإن العزلة التي فرضها العالم على هيئة تحرير الشام والدولة السورية قد تخلق أزمة تتجاوز أزمة أفغانستان.
فقد أدت سلسلة المعارك التي أدت إلى الإطاحة بالأسد إلى نزوح حوالي 900 ألف سوري في الأشهر الأخيرة من عام 2024.
وتوقعت الأمم المتحدة أن يحتاج 33 مليون سوري إلى المساعدة في العام المقبل.
وحتى لو تحركت القوى الأجنبية بسرعة على الجبهة الإنسانية، فإن المساعدات الأجنبية لا يمكنها دعم بلد بأكمله، فسوريا لا تحتاج فقط إلى إمدادات الطوارئ ولكن أيضًا إلى الدعم لتعافي اقتصادها، الذي توقف أثناء الحرب.
تسارعت المناقشات خلف الكواليس في الأسابيع الأخيرة بين الدول الغربية والعربية حول كيفية التعامل مع قادة سوريا الجدد.
وقد تحدث كبار المسؤولين من فرنسا وألمانيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول الخليج والأمم المتحدة، من بين آخرين، بالفعل إلى هيئة تحرير الشام، وشرع العديد منهم في زيارات إلى دمشق.
وفي أواخر ديسمبر ألغت الولايات المتحدة مكافأة العشرة ملايين دولار التي كانت مخصصة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على الشرع.
ولكن هناك علامات أخرى تشير إلى أن العالم قد يرتكب في سوريا العديد من الأخطاء نفسها التي ارتكبها في أفغانستان بعد عام 2021.
لقد طرح المسؤولون الأوروبيون والأميركيون، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، العديد من المتطلبات التي يتعين على هيئة تحرير الشام أن تفرضها، مثل المطالبة باتخاذ الجماعة إجراءات ضد التشدد، وتشكيل حكومة أكثر شمولاً، ودعم حقوق المرأة والأقليات، وإغلاق القواعد الروسية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ولكن لم يوضح أحد على وجه التحديد ما الذي سيقدمه العالم للإدارة الجديدة في المقابل أو كيف ينبغي لهيئة تحرير الشام أن تعطي الأولوية لسلسلة المطالب، بل على العكس من ذلك، فإن صناع السياسات يؤجلون الأمر إلى وقت لاحق.
لا وقت للانتظار
في غياب العمل الحاسم من قِبَل الجهات الفاعلة الدولية، أصبحت سوريا على استعداد للانحدار إلى مزيد من الأزمة، كما حدث في أفغانستان.
ولتجنب هذا المصير، يتعين على الحكومات الأجنبية أن توقف بسرعة العقوبات التي تدفع سوريا إلى حالة طوارئ اقتصادية وإنسانية أعمق.
ومن شأن مثل هذه التصاريح أن تنقذ الأرواح في الأمد القريب، بما يتماشى مع المصالح الغربية في دعم استقرار المنطقة وعكس تدفق المهاجرين.