في ظل العقوبات الغربية غير المسبوقة، يجد الاقتصاد الروسي نفسه في مواجهة تحديات متصاعدة تهدد استقراره المالي. ووسط تقارير تشير إلى احتمال نفاد الاحتياطيات المالية الروسية بحلول الخريف، يبرز تساؤل حاسم حول فعالية الضغوط الاقتصادية التي تقودها واشنطن وحلفاؤها. فهل نجحت هذه السياسات في كبح قدرة روسيا على تمويل حربها؟ أم أن موسكو ستتمكن من التكيف مع هذه القيود من خلال تحالفات بديلة وآليات مبتكرة؟

نقل "بيزنس إنسايدر" عن الخبير الاقتصادي السويدي والعضو السابق في المجلس الأطلسي، أندرس أسلوند، قوله إن موسكو تواجه تحدياً حاسماً لمجهودها الحربي في العام الجاري 2025؛ إذ تنفد الأموال النقدية لدى الدولة بسرعة، مع احتمال نفاد الاحتياطيات المالية قبل نهاية العام.

بحسب الخبير، فإن  "هذا ينبئ بمشاكل للجهود العسكرية للبلاد في العام 2025، نظرا لاعتماد روسيا بشكل كبير على صندوق الثروة السيادية الخاص بها على مدى السنوات العديدة الماضية"، مشدداً على أن الاحتياطيات السائلة في صندوق الثروة انخفضت من 117 مليار دولار في 2021 إلى 31 مليار دولار بنهاية نوفمبر.

أخبار ذات صلة

روسيا وإيران تعتزمان التوقيع على اتفاقية شراكة استراتيجية
لماذا تأثرت أسواق النفط من عقوبات أميركا الأخيرة ضد روسيا؟

ومع ذلك، ووفقا لميزانيتها للعام 2025، فإن روسيا في طريقها لإنفاق مبلغ قياسي قدره 130.5 مليار دولار على  الدفاع  هذا العام.

ولكن النقص الأكثر خطورة يتمثل في تمويل الميزانية، حيث من المرجح أن تنفد آخر احتياطيات روسيا من السيولة في خريف عام 2025. ومن ثم تصبح تخفيضات الميزانية ضرورية. وفي الوقت نفسه، قد يتطلب اقتصاد الحرب أيضاً ضوابط الأسعار والتقنين.  ومع ارتفاع خطر الانهيار المالي، يوشك اقتصاد روسيا المهدد على فرض قيود خطيرة على الحرب.

ووفق التقرير، فقد كان الانخفاض السريع في صندوق الثروة السيادية الروسي مدفوعاً جزئياً بالعقوبات الغربية، التي منعت روسيا من الاقتراض من دول أخرى. وأشار آسلوند إلى أن إجمالي الدين الخارجي للبلاد انهار على مدى العقد الماضي، مع انخفاض الاقتراض الأجنبي من 729 مليار دولار في عام 2023 إلى حوالي 293 مليار دولار في سبتمبر 2024.

وتشكل قدرة روسيا المحدودة على تمويل الحرب أيضاً نبأ سيئاً لصحة اقتصادها، الذي يعاني من عدد لا يحصى من القضايا الأخرى.

وقال أسلوند إن الاقتصاد الروسي يتسم بالتعقيد أيضاً بسبب قضايا أخرى تعصف باقتصاد البلاد. وأشار إلى ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة الروسية ، والنقص الحاد في العمالة في البلاد، وهي كلها عوامل حذر خبراء الاقتصاد من أنها قد تعوق آفاق النمو في روسيا على المدى الطويل .

أخبار ذات صلة

الركود التضخمي يهدد أوروبا مع ارتفاع أسعار الطاقة
كيف تتأثر الأسواق الناشئة بـ "الحرب التجارية"؟

اختناقات

من جانبه، يقول المحلل الروسي، تيمور دويدار، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن:

  • العقوبات المفروضة على روسيا شملت مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
  • تأثير هذه العقوبات كان كبيراً على التجارة الدولية واللوجستية، حيث تقلص عدد الموانئ التي كانت روسيا تعتمد عليها بسبب الصراع العسكري والاقتصادي القائم.
  • العقوبات المفروضة على القطاع المصرفي أدت إلى عزل روسيا نسبياً عن التجارة الدولية؛ خصوصاً وأن الاقتصاد الاستهلاكي الروسي يعتمد بشكل كبير على الاستيراد.
  • هذه العزلة دفعت الشركات المحلية لمحاولة سد الفجوات، إلى جانب الشركات الصينية والتركية التي برزت في السوق الروسية.
  • الشركات الصينية كانت رائدة في هذا السياق، بينما دخلت الشركات التركية تدريجياً إلى السوق المحلية. لكن رغم ذلك، ارتفعت معدلات التضخم إلى حدود الـ 10 بالمئة العام الماضي، وزادت الأسعار بشكل كبير.

ويشير المحلل الروسي إلى انسحاب أكثر من 1100 شركة أجنبية من روسيا بسبب العقوبات، والتي كانت توظف نحو 550 ألف شخص في مختلف المجالات، ما أدى إلى تفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية. كما تضررت قطاعات رئيسية مثل الطيران المدني وصناعة السيارات، حيث شهدت انخفاضاً في جميع المعايير تقريباً.

أخبار ذات صلة

روسيا.. التضخم يرتفع إلى 9.5 بالمئة في 2024
وكالة الطاقة: الإمدادات الروسية قد تتعطل بشدة بعد العقوبات

يؤكد دويدار في السياق ذاته أن القيود على قطاع المحروقات الروسي – الذي يشكل مصدراً رئيسياً لإيرادات الدولة – أسهمت في عزل روسيا عن الأسواق العالمية، مما أدى إلى مشكلات كبيرة أثرت مباشرة على المواطن الروسي، لافتاً إلى أن العقوبات لا تستهدف الدولة فحسب، بل الشعب الروسي بأكمله. كما يشدد على أن الأوضاع الحالية لا تحمل أي إيجابيات، على عكس ما قد يروج له الإعلام الروسي، في تقديره.

وفي الجانب الاجتماعي، يتحدث المحلل الروسي عن معاناة الأسر والانقسامات في المجتمع بسبب الضغوطات الكبيرة. كما يسلط الضوء على تراجع روسيا في مجالات التنمية مثل الطب والتكنولوجيا والصناعة، حيث كانت تعتمد بشكل كبير على التعاون والتبادل التجاري مع العالم الخارجي.

ويوضح أيضاً أن موسكو لم تكن مستعدة لهذا الانفصال عن النظام العالمي، ما أدى إلى اكتشاف فجوات كبيرة في قطاعات مثل الاتصالات والطيران والسيارات، التي تعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا وقطع الغيار المستوردة، بينما يعاني قطاع التصنيع المحلي من ضعف كبير.

أخبار ذات صلة

الاتحاد الأوروبي يدرس حظر واردات الألمنيوم الروسي
لماذا يتصاعد التنافس على غرينلاند؟

العقوبات

يشير تقرير للإذاعة الوطنية العامة الأميركية، إلى أنه:

  • منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها ما يقرب من 5000 عقوبة وضوابط تصدير على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا. وقد استهدفت هذه العقوبات كل شيء من الطاقة والوصول إلى التجارة العالمية.. لكن الحرب لا تزال مستمرة.
  • في أواخر الأسبوع الماضي، أعلنت إدارة بايدن عن جولة جديدة وموسعة من العقوبات على روسيا. وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي إن العقوبات تستهدف أكبر مصادر الإيرادات في روسيا.
  • شملت هذه الجولة الأخيرة من العقوبات، في الأيام الأخيرة من إدارة بايدن، منتجين رئيسيين للنفط الروسي، ومشاريع الغاز الطبيعي المسال، وتجار النفط والفنيين، ونحو 200 ناقلة نفط. ومثلها كمثل العديد من جولات العقوبات الأخرى على مدى السنوات الثلاث الماضية، تهدف هذه العقوبات إلى جعل تمويل موسكو للحرب في أوكرانيا أمرا صعبا.

وينقل التقرير عن مديرة مبادرة الحكم الاقتصادي في المجلس الأطلسي، كيمبرلي دونوفان، قولها إن "العقوبات التي فرضت على روسيا كانت لها آثار.. لكن لا أعتقد بأنها حققت بالضرورة أهدافها.. لقد تمكنوا (الروس) من تطوير العديد من الحلول للالتفاف على تلك العقوبات. لذا فقد حصلوا للتو على بعض الوقت لصقل أساليبهم في غسل الأموال والتهرب من العقوبات".

سمحت بعض الدول المجاورة للتكنولوجيا الغربية والسلع الاستهلاكية بعبور حدودها إلى روسيا، ووجد الكرملين أسواقاً جديدة نهمة للنفط الروسي ــ كالصين والهند ــ اللتان دفعتا أسعاراً منخفضة للغاية مقابل الخام.

أخبار ذات صلة

الكرملين: روسيا ستحاول تقليل أثر العقوبات الأميركية الجديدة
لماذا ترتفع أسعار اليورانيوم؟

كما بنى الكرملين ما يسمى بأسطول الظل ــ ناقلات قديمة في مختلف أنحاء العالم تستخدم لتهريب النفط الخاضع للعقوبات.

إضعاف الاقتصاد

الاستاذ بالمدرسة العليا للاقتصاد في روسيا، الدكتور رامي القليوبي، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن:

  • العقوبات الغربية على روسيا تنجح بالفعل في إضعاف الاقتصاد الروسي وتؤثر على استقراره، لكنها تفشل في إحداث انهيار كامل له.
  • السبب الرئيسي وراء ذلك يعود إلى كون روسيا قوة عظمى ودولة ذات اقتصاد متنوع وكبير، مما يجعلها قادرة على الصمود أمام الضغوط الاقتصادية الدولية.

ويضيف: "كما علّمتنا التجارب في السنوات الأخيرة، لا يمكن شطب القوى الاقتصادية الكبرى من الخريطة الاقتصادية العالمية بسهولة.. الأمثلة على ذلك واضحة، مثل كوريا الشمالية، وحتى قوى مثل سوريا تحت حكم بشار الأسد، والعراق خلال عهد صدام حسين، وليبيا في عهد معمر القذافي.. على الرغم من الحصار والعقوبات، لا تزال هذه الدول تحتفظ ببعض أدوات التأثير"، على حد وصفه.

ويشير القليوبي إلى أنه كلما ازدادت العقوبات على روسيا، ازدادت معها محاولات الالتفاف عليها باستخدام أساليب بديلة للتجارة والاستثمار، مما يخفف من آثار هذه العقوبات. ورغم التحديات الاقتصادية الحالية، مثل تراجع قيمة العملة الروسية (الروبل) وارتفاع تكلفة المعيشة، يشدد القليوبي على أن الحديث عن انهيار اقتصادي شامل "لا مجال له في الوقت الحالي".

ويختتم المحلل الاقتصادي تصريحاته بالقول إن مستقبل الاقتصاد الروسي يعتمد على مدى قدرته على التكيّف مع الضغوط واستثمار موارده الطبيعية والبشرية، بالإضافة إلى شراكاته مع الدول التي لم تنضم إلى منظومة العقوبات الغربية.

اقتصاد روسيا يتفوق على اقتصادات الغرب