بعد سنوات من تكرار اسمه كمرشح محتمل لتولي رئاسة حكومة لبنان بصفته شخصية إصلاحية، خطا القاضي نواف سلام خطوة حاسمة نحو قلب المشهد السياسي اللبناني، حيث تم تكليفه بتشكيل أول حكومة في عهد الرئيس المنتخب حديثاً، العماد جوزيف عون.
وجاءت المفاجأة الكبرى بحصول سلام على تأييد 84 نائباً من أصل 128 نائباً في البرلمان اللبناني، في نتيجة غير متوقعة بعد أربعة أيام فقط على انتخاب رئيس جديد للبنان.
وأحيا هذا التكليف آمال اللبنانيين في بداية مسار جديد، يعيد بناء الثقة ويضع حلولاً للأزمات الاقتصادية والسياسية غير المسبوقة التي أثقلت كاهلهم.
من هو نواف سلام؟
سلام من مواليد بيروت عام 1953 انتخب رئيساً لمحكمة العدل الدولية، في فبراير 2024 وذلك بعد انضمامه إليها في عام 2018، وهو يحمل شهادة دكتوراه دولة في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية (سيانس بو) في باريس، ودكتوراه في التاريخ من جامعة باريس - السوربون، وماجستير في القوانين من جامعة هارفارد.
وقبل انضمامه لمحكمة العدل الدولية، شغل منصب سفير لبنان لدى الأمم المتحدة بين 2007 و2017، وهو ترأس أعمال مجلس الأمن ما بين مايو 2010 وسبتمبر 2011.
ويمتلك رئيس الوزراء اللبناني المُكلّف نواف سلام خلفية اقتصادية تتسم بخبرة عميقة وشاملة في القضايا التنموية والاقتصادية، فهو انتخب عضواً في المكتب التنفيذي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، ما بين 1999 و2002.
وكانت مهمة هذا المجلس تقديم المشورة والاقتراحات والتوصيات في المشاريع ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي التي ترده من الحكومة.
كما مثل لبنان في المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة عامي 2016 و2018.
نهج إصلاحي
ولطالما شدد سلام في مواقف سابقة له، على أن همه الأساسي هو إنقاذ لبنان من محنته، مشيراً إلى أن ذلك يتطلب تغييراً في مقاربة الأزمة نهجاً وممارسة، بدءاً بالإصلاح في السياسات المالية، وصولاً إلى الإصلاح السياسي، حيث أكد أن يديه ممدودتان للجميع، من أجل الانطلاق في مهمة الإنقاذ والإصلاح وإعادة الإعمار.
ولفت إلى أن الحكومة اللبنانية الجديدة، ستعمل على وضع برنامج متكامل لبناء اقتصاد منتج، يرتكز على النمو المستدام ويؤمّن فرص عمل للأجيال، متعهداً بإحداث تغيير جذري في الإدارة، وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، وإنصاف من خسر أمواله من المودعين، وتحقيق العدالة لضحايا انفجار مرفأ بيروت.
ومنذ العام 2019، دخل لبنان في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في تاريخه الحديث، أزمة صنّفها البنك الدولي من بين أشد الأزمات العالمية منذ القرن التاسع عشر.
وانهارت الليرة اللبنانية بشكل غير مسبوق، لتفقد أكثر من 95 بالمئة من قيمتها أمام الدولار الأميركي، ما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية.
وفي ظل هذه الأزمة، شُلّ القطاع المصرفي، وجُمّدت ودائع المواطنين، وأصبحت البنوك عاجزة عن تلبية أبسط الطلبات، وتوقفت عجلة الاستثمار والإنتاج، وغابت الخطط الاقتصادية الفعالة، ما أدخل البلاد في حالة من الركود الحاد والانهيار الشامل، حيث ترافق ذلك مع فراغ في منصب رئاسة الجمهورية، استمر لـ 26 شهراً، لتكتمل المعاناة مع الدمار الناتج عن القصف الإسرائيلي الذي تعرض له لبنان، والذي تسبب بخسائر بمليارات الدولارات.
ردة فعل السوق
واليوم، ومع تكليف نواف سلام برئاسة الحكومة الجديدة، يتجدد التساؤل بين أوساط اللبنانيين، حول قدرته على طي صفحة الأزمات المزمنة، التي أنهكت لبنان عبر السنوات.
وقال مارك بوهلوند، كبير محللي أبحاث الائتمان في REDD Intelligence لبلومبرغ، إن ردة فعل السوق على تعيين سلام ستكون أكثر ملاءمة، لأنه شخص يتناسب جيداً مع سيناريو الاستثمار الشعبي، بأن لبنان يبتعد عن هيمنة حزب الله، وبالتالي إيران، مشيراً إلى أن الرئيس المُكلّف سيكون في وضع أفضل لجمع الدعم المالي الخارجي.
ولكن ومع ذلك، فإن لبنان لا يزال بحاجة إلى إصلاح الميزانية العمومية للبنك المركزي، والبنوك المحلية التي تواجه فجوة قدرها 80 مليار دولار أميركي.
ويقول رجل الأعمال، أحمد صبرا، وهو مؤسس Sabrarchitecture – Dubai ورئيس مجموعة RTS للمشاريع والإنشاءات، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن رئيس الحكومة المكلّف نواف سلام يقف أمام مرحلة دقيقة وصعبة جداً تتطلب حكمة وحزماً.
في وقت تتجه فيه الأنظار العالمية إلى لبنان، في محاولة لانتشاله من قاع الأزمات التي يعاني منها، مشدداً على أن هذه اللحظة تُشكّل فرصة حقيقية للبنان، لإعادة إحياء دوره الدولي والعودة إلى الحضن العربي، لا سيّما الخليجي.
فبحسب ما يبدو أن عام 2025 سيشهد على توجهات دولية لانتشال لبنان من أزماته، ورئيس الحكومة المكلّف لديه دور كبير بعرض ما تعاني منه البلاد، أمام المجتمع الدولي بطريقة احترافية مستفيداً من الزخم الدولي في هذا المجال.
ويرى أحمد صبرا، وهو عضو مجلس العمل اللبناني في دبي والإمارات الشمالية، أن الدور الكبير الذي سيلعبه نواف سلام يجب أن يكون متعدد الاتجاهات، حيث يجب عليه أن يبدأ بتأمين البيئة الحاضنة العربية، التي تعتبر خطوة أساسية في مسار إنجاح لبنان.
وأوضح أن الانفتاح على دول مثل الإمارات، السعودية، قطر، وغيرها من الدول الخليجية التي تمتلك تجارب إنمائية واقتصادية ضخمة، يمكن للبنان الاستفادة منها، خصوصاً في مجال الإدارة الإلكترونية الحديثة والتنمية المستدامة، لافتاً إلى أن التغيرات في سوريا سوف يستفيد منها لبنان أيضاً، إذ أن البلدين أمام فرصة للتعاون ضمن إطار دولي جديد يتخطى نمط العلاقات القديمة.
عوامل تعيد المستثمرين
وبحسب صبرا فإن لبنان بلد يعاني من كثرة الفساد ويعاني من دمار بكل شي، ولذلك يجب على الرئيس سلام ورئيس الجمهورية المنتخب جوزيف عون الحكم بقبضة حديدية، في ظل الالتفاف الدولي الذي بات يحظى به لبنان من جديد، مع التركيز على ضمان بيئة آمنة ومستقرة، تجذب المستثمرين وتعيد ثقة المغتربين، فالمستثمر والمغترب لا يمكن أن يعود للاستثمار في لبنان، إذا لم يكن يملك ضمانات أمنية، بحسب تعبيره
واعتبر المهندس صبرا، أن رئيس الحكومة المُكلّف نواف سلام أمام مهمة شاقة تبدأ من الداخل، من خلال الإصلاح الإداري والقضائي وإعادة منهجة القوانين، حيث لا يمكن جذب الاستثمارات أو استعادة الثقة الخارجية دون هذه الضمانات، كما يجب إعادة بناء مؤسسات الدولة التي تعاني من انهيار كبير، وترسيم الحدود البرية والبحرية.
وشدد على أن لبنان بحاجة ماسة لإصلاح القطاع المصرفي، ما يُسهل عملية الإنماء والإعمار، فاستعادة الثقة بهذا القطاع والحصول على دعم خارجي من الدول الصديقة والمانحة، ومن البنك الدولي تشكل خطوات أساسية في إطار تخطي لبنان لأزماته.
وجدد صبرا تأكيده على أن لبنان يمر بمرحلة صعبة، ولكن بالوقت نفسه يمكن القول أنها مرحلة ذهبية في حال استفاد لبنان من الدعم الدولي ومن علاقاته الاستراتيجية مع العالم العربي، معتبراً أن تحقيق جميع الأهداف بوصول البلاد إلى بر الأمان، قد لا يتم تحقيقها خلال عام أو عامين، إلا أن وضع خطة شاملة للنهضة الاقتصادية والإدارية يمثل حجر الأساس لعودة الازدهار للبنان.
من جهته يرى الخبير المالي والمصرفي، بهيج الخطيب، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه يمكن بالتأكيد لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراءها أن يتعاونوا لإفادة البلاد خصوصاً أن اللبنة الأولى لبناء لبنان الجديد، تمثلت بانتخاب رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون من خارج المنظومة السياسية.
وأوضح أن تكليف القاضي نواف سلام، وهو أيضاً من خارج المنظومة لتأليف الحكومة يجب أن يتبعها تأليف حكومة متجانسة من وزراء ذات كفاءة وأصحاب اختصاصات، توحي بالثقة وقادرين على تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب، ليتمكنوا من العمل بشكل صحيح، على إعادة تشكيل السلطة والنهوض بالبلاد.
وأشار إلى ضرورة التعاون مع خبراء من مختلف المجالات لوضع خطة التعافي والبرنامج الإصلاحي في كل المجالات، وأن لا تستغرق مدة وضعهما شهراً تبدأ بتعديل موازنة 2025 بما يتناسب مع المستجدات الأخيرة، وتحقق فائضاً يسمح بالبدء برحلة سداد الديون المترتبة على الدولة لمصرف لبنان والمصارف ليتمكنوا من ضمان أموال المودعين، مشددا على أن تلي الموازنة خطة إصلاحية يتمثل أولها بوضع مشاريع قوانين بالقطاعات التي تحتاج للإصلاح وتعديل قانون الانتخاب.
قوانين إصلاحية
وقال الخطيب إنه يجب على رئيس الحكومة أن يدعو مجلس النواب، لمنح حكومته صلاحية إصدار القوانين الإصلاحية بمجالات محددة، بمراسيم إشتراعية لها قوة القانون دون المرور بمجلس النواب خلال فترة الحكومة، والتي يجب أن تنتهي مع انتخابات مجلس النواب في أيار مايو 2026، لتتجنب الحكومة عرض المشاريع على البرلمان وعرقلتها عبر حفظها في الأدراج أو إفراغها من مضمونها كما كان يحصل.
وتتمثل البنود الإصلاحية بالبند الأول والأكثر إلحاحاً وهو إصلاح القطاع المالي والنقدي ويتضمن:
- التعهد بضمان أموال المودعين وفقاً للدستور وليس جدولتها
- إقرار تشريعات تفرض على البنوك إعادة الرسملة خلال مهلة زمنية معينة وإلا تحال الى التصفية.
- إعادة هيكلة وجدولة الدين العام مع فترة سماح ودون فوائد لمدة معينة
- العمل مع مصرف لبنان على توحيد وتعويم سعر صرف الليرة، تزامناً مع خطة الإصلاح المالي والمصرفي .
- وبحسب الخطيب يجب اتخاذ مجموعة من الخطوات بهدف تعزيز وضع المالية والإصلاح الإداري، عبر:
- إقرار قانون الكابيتال كونترول لتنظيم حركة لتحاويل المالية
- استعادة الثقة بالقطاع المصرفي من خلال مد لبنان بسيولة كافية
- إقرار قانون استقلالية القضاء
- وضع تشريعات تؤدي الى مكافحة التهرب الجمركي والضريبي ومنع التهريب عبر الحدود
- تسوية المخالفات على الأملاك البحرية والنهرية
- إلغاء قانون تعويضات النواب السابقين واستبداله بتعويض مقطوع يتناسب مع عدد الدورات لكل نائب
- إعادة هيكلة القطاع العام المهترىء وإعادة تأهيل وفرز الموظفين ودمج أو الغاء وزارات
- توحيد الهيئات الطبية الضامنة وإقرار البطاقة الصحية
- تفعيل دور الهيئات الرقابية
كل هذه الإجراءت مطلوبة من الحكومة ورئيسها ويمكن لهم القيام بها في حال توافر الشرط الأول وهو حكومة متجانسة تعمل على وضع خطة إصلاحية متكاملة.