تشهد الساحة السورية تحولات دقيقة في ظل تصاعد الحديث عن تدخل عسكري تركي محتمل شمال البلاد.

وبرزت تصريحات قيادات قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ومسؤولي الحكومة التركية، مما أثار تساؤلات بشأن إمكانية تقديم "قسد" تنازلات جديدة لتجنب التصعيد العسكري.

تتداخل في هذا الملف عوامل داخلية وإقليمية ودولية، حيث تتصارع المصالح وتتشابك الأهداف، بينما تبدو خيارات جميع الأطراف محدودة وسط ضغوط متزايدة لتحقيق توازن بين الأمن والاستقرار.

"قسد" بين التفاوض والتنازلات

في حديثه إلى "سكاي نيوز عربية"، كشف قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبده عن وجود توافقات أساسية مع الإدارة الجديدة في دمشق بشأن مستقبل سوريا، وأكد ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.

كما أبدى عبده استعداداً للتفاوض مع تركيا في محاولة لخفض التصعيد، مشيراً إلى أن الحوار هو السبيل الأفضل لحل الأزمة.

هذه التصريحات تعكس تحولاً محتملاً في "سياسة قسد"، التي ربما بدأت تدرك أن الحفاظ على مكتسباتها العسكرية والإدارية يتطلب مرونة أكبر في التعاطي مع الضغوط التركية.

لكن هذا الانفتاح لا يخلو من مخاطر، إذ أن أي تنازل يتعلق بموقع قسد العسكري أو السياسي قد يهدد مشروعها للإدارة الذاتية، الذي يعد العمود الفقري لطموحاتها في شمال شرق سوريا.

الموقف التركي.. تنازلات أم اشتراطات؟

من الجانب التركي، يبرز موقف واضح يتجلى في تصريحات وزير الخارجية التركي، الذي أكد أن أنقرة لا تسعى إلى احتلال الأراضي السورية، لكنها ترى أن خروج وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني من المنطقة الحدودية شرط لا بد منه لتحقيق الاستقرار.

تركيا تعلن بوضوح أنها تريد إزالة التهديد الكردي على حدودها الجنوبية، لكنها تتبنى رؤية أشمل تقوم على دمج قسد، أو ما يتبقى منها، ضمن هيكل الدولة السورية الجديد.

أخبار ذات صلة

قائد "قسد": سنكون جزءا من عملية بناء "جيش سوريا الجديد"
سوريا.. مقتل 37 باشتباكات بين قوات موالية لتركيا وقوات كردية
تصعيد تركي بالشمال السوري.. معالم جديدة للصراع المحتدم
بالتفاصيل.. "معركة عنيفة" بمحيط سد تشرين

خيارات متناقضة ومسارات متشابكة

وفق أستاذ العلاقات الدولية سمير صالحة، فإن الأزمة الحالية تتمحور حول مسارين رئيسيين:

  1. المسار السوري-السوري: يتمثل في الحوار بين قسد ودمشق، وهو مسار يعاني من غياب التفاهمات الواضحة، حيث لا تزال قسد مترددة في التخلي عن مشروعها للإدارة الذاتية، بينما ترفض دمشق منحها أي استقلالية فعلية.
  2. المسار الأميركي - التركي: يتعلق بإدارة العلاقة بين واشنطن، التي تدعم قسد، وأنقرة التي تعتبرها تهديداً لأمنها القومي.

ويشير صالحة في حديثه إلى "سكاي نيوز عربية"، إلى أن كلا المسارين يواجه عقبات كبيرة. فدمشق وأنقرة، رغم خلافاتهما، تتفقان على رفض استمرار الوضع الراهن لقسد.

من جهة أخرى، فإن "قسد" تجد نفسها تحت ضغط أميركي وروسيا متزايد لتقديم تنازلات، سواء لصالح تركيا أو لصالح النظام السوري.

صالحة يقول: "التحول من مشروع الإدارة الذاتية إلى حل سياسي يمثل العقبة الرئيسية أمام تركيا، لكنه أيضاً يشكل تهديداً وجودياً لقسد".

الدور الدولي: حسابات معقدة وضغوط متضاربة

لا يمكن فهم المشهد السوري دون الأخذ بعين الاعتبار التدخلات الدولية. فرنسا، على سبيل المثال، تسعى إلى تحويل جزء من التحالف الدولي إلى قوات عازلة داخل سوريا، وهي فكرة ترفضها أنقرة ودمشق على حد سواء.

الولايات المتحدة، من جانبها، تلعب دوراً غامضاً، حيث تدعم قسد عسكرياً لكنها لا تقدم ضمانات واضحة لحمايتها من التدخل التركي. هذا الموقف يضع قسد في وضع هش، إذ تعتمد بشكل شبه كامل على الدعم الأمريكي، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن واشنطن قد تضحي بها إذا كان ذلك يخدم مصالحها الاستراتيجية مع أنقرة.

ما هي التنازلات الممكنة؟

مع تزايد الضغوط، تطرح تساؤلات بشأن ما يمكن أن تقدمه قسد لتجنب مواجهة عسكرية مع تركيا:

  1. الانسحاب من المناطق الحدودية: قد تضطر قسد إلى الموافقة على إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود مع تركيا، تخضع لسيطرة مشتركة بين قوات دولية والنظام السوري.
  2. إعادة هيكلة قواتها: قد توافق قسد على دمج وحداتها ضمن الجيش السوري، مع الحفاظ على بعض الخصوصية في مناطق نفوذها.
  3. التخلي عن العلاقات مع حزب العمال الكردستاني: هذه الخطوة قد تكون ضرورية لطمأنه أنقرة، لكنها قد تؤدي إلى انشقاقات داخل صفوف قسد.

ما وراء التفاوض: مخاطر التصعيد والتعقيد السياسي

رغم محاولات خفض التصعيد، يبقى احتمال المواجهة العسكرية قائماً. تركيا، التي تعتبر أمنها القومي غير قابل للتفاوض، قد تجد نفسها مضطرة للتدخل إذا شعرت بعدم جدية قسد في تنفيذ الشروط المطلوبة.

من جهة أخرى، فإن قسد تواجه معضلة مزدوجة. التنازل لتركيا يعني فقدانها جزءاً من نفوذها، بينما التصلب في مواقفها قد يؤدي إلى خسارة الدعم الدولي، خاصة إذا قررت واشنطن تقليل التزاماتها في سوريا.

المشهد الحالي يعكس معادلة معقدة، حيث يسعى كل طرف لتحقيق أهدافه دون تقديم تنازلات جوهرية. لكن كما يشير سمير صالحة، فإن "غياب الثقة بين الأطراف يشكل العقبة الأبرز أمام أي تسوية سياسية".

التفاهم بين قسد وتركيا، إذا تحقق، سيكون مشروطاً بحلول وسط تضمن مصالح الطرفين، لكن في ظل التعقيدات الحالية، يبقى التصعيد احتمالاً قائماً، خاصة إذا فشلت الأطراف الدولية في لعب دور أكثر فاعلية في تقريب وجهات النظر.