تشهد سوق الأسهم الأميركية صعوداً استثنائياً في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بشكل رئيسي بشركات التكنولوجيا الكبرى التي أصبحت تشكل العمود الفقري لمؤشرات السوق.. هذه الارتفاعات تثير التساؤلات حول ما إذا كان هذا الصعود يعبر عن مرحلة نمو مستدامة أم أنه مقدمة لفقاعة مالية قد تهدد الاستقرار الاقتصادي.
ومع توالي النجاحات التقنية وارتفاع قيم الشركات الكبرى إلى مستويات قياسية، يجد المستثمرون أنفسهم أمام حالة من الحذر والترقب.
في قلب هذا المشهد، يلعب التفاؤل حول الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة دوراً محورياً، حيث ينظر إليها كقوة دفع رئيسية للنمو الاقتصادي المستقبلي.. ومع ذلك، فإن هذا التفاؤل يصاحبه أحياناً توقعات غير واقعية بشأن العوائد المستقبلية، مما قد يؤدي إلى تسعير مفرط للأصول.
وبينما يبدو القطاع التكنولوجي واعداً، إلا أن الأسواق المالية تحمل في طياتها تاريخاً من التقلبات التي ترتبط غالباً بموجات من النشوة الاقتصادية.
الاقتصاد الأميركي، المعروف بقدرته على الابتكار والتجديد، يدعم هذه الارتفاعات بمؤشرات إيجابية تشمل استقرار السوق ومرونة الشركات. ولكن، مع استمرار صعود التقييمات، يصبح السؤال حول استدامة هذا النمو أكثر إلحاحاً، خاصة مع وجود إشارات تدعو للتفكير في إمكانية حدوث تصحيح محتمل. وبين التفاؤل بمستقبل التكنولوجيا والحذر من مخاطر الفقاعات، يبقى مستقبل الأسواق معلقاً بين فرص جديدة وتحديات قادمة.
حالة تأهب
في مقال له بصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، يقول المؤسس والرئيس المشارك لشركة Oaktree Capital Management، هوارد ماركس (الذي تنبأ بفقاعة الدوت كوم)، يقول:
- إن العديد من المستثمرين هذه الأيام في حالة تأهب قصوى تحسباً لفقاعات أسعار الأصول، حيث يخشون تكرار حالات الطفرات والكساد السابقة.
- غالباً تدور التساؤلات عما إذا كانت هناك فقاعة تحيط بحفنة الأسهم التي كانت تقود مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وهي شركات التكنولوجيا السبع التي هيمنت على المؤشر في السنوات الأخيرة وكانت مسؤولة عن حصة غير متناسبة للغاية من مكاسبه.
- يمكن النظر إلى معايير التقييم لتمييز "الفقاعة"، ولكنني كنت أعتقد منذ فترة طويلة بأن التشخيص النفسي أكثر فعالية.. النشوة المفرطة غير العقلانية (الإعجاب الصريح بمجموعة من الشركات أو الأصول، الأمر الذي يؤدي إلى خوف هائل من التخلف عن الركب إذا فشل المستثمر في المشاركة في الفقاعة على قناعة بأنه لا يوجد سعر مرتفع للغاية لهذه الأسهم).
وترتبط الفقاعات دائماً بالتطورات الجديدة، من الهوس الذي ساد في ثلاثينيات القرن السابع عشر في هولندا بشأن زهور التوليب التي تم إدخالها حديثاً، إلى أسهم الإنترنت والاتصالات في أواخر تسعينيات القرن العشرين.
بحسب هوارد "فلقد شهدت العديد من الفقاعات التي صاحبتها ابتكارات جديدة، كان الكثير منها إما مبالغاً فيه أو غير مفهوم تماماً"، موضحاً أن عوامل الجذب التي ينطوي عليها أي منتج جديد أو طريقة جديدة لإدارة الأعمال تكون واضحة عادة، ولكن الحُفر والمزالق غالباً ما تكون مخفية. وقد تتفوق شركة جديدة تماماً على الشركات السابقة، ولكن المستثمرين غالباً ما يفشلون في إدراك حقيقة مفادها أن حتى الوافد الجديد اللامع يمكن أن يُحل محله. ويمكن تعطيل الشركات المزعزعة للاستقرار، سواء من خلال منافسين ماهرين أو حتى تقنيات أحدث.
ويضيف:
- إن الإفراط في التفاؤل بشأن الأشياء الجديدة يؤدي إلى أخطاء في التسعير.
- وبما أن المشاركين في الفقاعة لا يستطيعون تصور وجود أي جانب سلبي، فإنهم غالباً ما يمنحون تقييمات تفترض النجاح.. قد ينجح عدد قليل فقط من الوافدين الجدد، أو حتى يبقون على قيد الحياة.
- تُباع الأسهم بمضاعفات أرباح العام المقبل، مما يعكس التوقعات بأنها ستستمر في جني الأموال لسنوات عديدة.
- عندما تشتري سهماً، فإنك تشتري حصة من أرباح الشركة كل عام في المستقبل. عندما تشتري سهمًا بسعر أعلى من متوسط مضاعف الأرباح، فإن المستثمرين يدفعون مقابل أرباح الشركات - حتى بعد منحها الفضل في النمو الكبير - لعقود عديدة في المستقبل.
ويشدد على أن الشركات الرائدة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 اليوم أفضل كثيراً من أفضل الشركات في الماضي. فهي تتمتع بمزايا تكنولوجية هائلة ونطاق واسع. ولكن المثابرة ليست بالأمر السهل، وخاصة في المجالات التكنولوجية العالية المعرضة للاضطراب؛ ففي الفقاعات، يعامل المستثمرون الشركات الرائدة وكأنها على يقين من أنها ستحافظ على صدارتها لعقود من الزمان. وبعض هذه الشركات يفعل ذلك وبعضها لا يفعل، ولكن يبدو أن التغيير هو القاعدة أكثر من المثابرة.
هل سوق الأسهم الأميركية مرتفعة للغاية؟
ووفق كاتب المقال، فإنه من النادر للغاية أن يرتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 20 بالمئة أو أكثر لمدة عامين متتاليين. فيما حدث ذلك في العامين الماضيين، حيث ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 24.2 بالمئة في العام 2023 و23.3 بالمئة في عام 2024، مما يقودنا إلى عام 2025.
تشمل العلامات التحذيرية اليوم التفاؤل الذي ساد الأسواق منذ أواخر العام 2022، والحماس الذي يبديه المستثمرون تجاه الذكاء الاصطناعي، والافتراض السائد بأن الشركات السبع الكبرى ستواصل تحقيق النجاح.
ارتفاعات قياسية "مبررة"
من جانبه، يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "سوق الأسهم الأميركية رغم ارتفاعاتها القياسية الحالية لم تدخل بعد في مرحلة الفقاعة.. ومن المتوقع أن يكون هناك مزيد من الارتفاعات خلال الفترة المقبلة".
ويرصد سعيد بعض العوامل التي تبرر هذه الارتفاعات المتوقعة؛ وأهمها:
- أداء الشركات الكبرى: مثل شركة إنفيديا، التي حققت مستويات قياسية جديدة بقيمة سوقية بلغت نحو 3.5 تريليون دولار، مدعومة بنتائج أعمال قوية واكتشافات تقنية جديدة.. هذه الارتفاعات ليست نتيجة مضاربات بحتة، بل لها مبررات اقتصادية وفنية قوية.
- قوة الاقتصاد الأميركي: أظهر الاقتصاد الأميركي أداءً قوياً وثابتاً، مع استمرار تحسن سوق العمل ومحاولات السيطرة على معدلات التضخم.. هذه العوامل تدعم صعود مؤشرات الأسهم.
- السياسة النقدية: الفيدرالي الأميركي ما زال في منتصف دورة تأثيره النقدي، مما يعني استمرار تأثير تخفيضات الفائدة المرتقبة وزيادة السيولة، وهو ما يخلق بيئة داعمة لصعود الأسهم.
- الاستقرار السياسي المتوقع مع عودة ترامب: عودة دونالد ترامب إلى السلطة في يناير الجاري قد تؤدي إلى تهدئة الصراعات الدولية، مقارنة بالسياسات التصعيدية الحالية، مما يخلق مناخاً إيجابياً يعزز من ارتفاعات سوق الأسهم.
ويختتم خبير أسواق المال حديثه بالإشارة إلى أن هناك احتمالية لدخول السوق في مرحلة الفقاعة في المستقبل، لكن ليس في الوقت الحالي، معتبراً أن مستويات الأسعار الحالية لا تزال مدعومة بمبررات اقتصادية وسياسية قوية، لافتاً إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد ارتفاعات إضافية قبل أي تهديد محتمل بفقاعة، مما يمنح السوق مزيداً من الزخم في الأجل القريب.
الذكاء الاصطناعي
وفي سياق متصل، يشير تقرير نشرته فوربس إلى أن:
- الارتفاع الكبير الذي شهدته سوق الأوراق المالية في السنوات الأخيرة كان يدور حول سبعة أسهم أساسية: (وهي ألفابت وأمازون وآبل وميتا ومايكروسوفت وإنفيديا وتسلا).
- يُفترض أن معظم الشركات السبع الكبار، إن لم يكن كلها، هي المستفيدة من النمو الهائل للذكاء الاصطناعي.
- تبلغ القيمة السوقية المجمعة للشركات السبع الرائعة أكثر من 17.5 تريليون دولار، وتمثل أكثر من نصف العائد الإجمالي لمؤشر ستاندرد آند بورز 500 في العام 2024.
- على مدى السنوات الخمس الماضية، شهدت الشركات السبع معدلات ارتفاع سنوية بلغت 20 بالمئة أو أكثر، حيث بلغت تسلا 73 بالمئة وتجاوزت إنفيديا 90 بالمئة.
والسؤال هنا: هل هذا مستدام؟ كيف ينتهي كل هذا؟ وماذا يقول هذا عن طفرة الذكاء الاصطناعي التي تلعب دوراً محورياً في نجاح السبعة؟
الاستنتاج الذي توصل إليه التقرير هو أن "الذكاء الاصطناعي يشكل استثماراً حقيقياً في شيء يستطيع حتى المستثمرون الأقل خبرة أن يفهموا أين قد تنشأ العائدات الضخمة.. فمن التطبيقات الطبية إلى الاختراقات في إنشاء المحتوى أو علوم الكمبيوتر، يعمل الذكاء الاصطناعي بالفعل على إحداث ثورة في عالم العمل، ولا يوجد سبب يمنعنا من التوقف عن الابتكار الآن".
لكن ثمة شعور بمزيد من التشكك حول ما إذا كانت العائدات ستصبح كبيرة بما يكفي أو محتملة بما يكفي لتبرير النوع من الاستثمار اللازم الآن "للدخول في اللعبة".. فهناك قائمة طويلة من الأمور التي يتعين أن تسير على ما يرام من أجل تحقيق خلق القيمة بالحجم الذي يفترضه تسعير الذكاء الاصطناعي، على النحو التالي:
- مشكلة استهلاك الطاقة: يجب إيجاد حل للاستهلاك الكبير للطاقة الذي يتطلبه الذكاء الاصطناعي، حيث يتجاوز قدرات الشبكة الكهربائية في الولايات المتحدة، مع غياب استثمارات كافية في البنية التحتية.
- مشكلة تدريب البيانات: تحتاج نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى كميات بيانات هائلة تتجاوز حجم الإنترنت الحالي، مما يزيد من الطلب على الطاقة بشكل متسارع.
- التطبيق الرائد (Killer App) الذي يضمن عوائد ضخمة للاستثمارات في الذكاء الاصطناعي لم يظهر بعد. رغم وجود فوائد مثل أتمتة مراكز البيانات والمهام المتكررة، إلا أن "المنتج القاتل" الذي يغير قواعد اللعبة لا يزال غائبًا.
- التنظيم والتشريعات: تزايد الدعوات لتنظيم الذكاء الاصطناعي مع تأثيره على الوظائف، إلى جانب تعقيدات قوانين الملكية الفكرية التي قد تؤثر على التطوير في هذا المجال.
ولكن كل الأدلة تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس فقاعة ولا خدعة؛ بل هو طفرة ذات إمكانات دائمة. ورغم وجود قدر كبير من النشوة غير العقلانية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، فإن هذه هي طريقة السوق الحرة في التجريب والتعلم، والتي كانت دائما تمنح الاقتصاد الأميركي ميزته.
تصحيح مرتقب
بدوره، يؤكد رئيس قسم الأسواق العالمية في Cedra Markets، جو يرق، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن سوق الأسهم الأميركية، وخاصة قطاع التكنولوجيا، لا يمكن تصنيفها كـ "فقاعة"؛ لكنه يشير إلى أن التقييمات الحالية ربما مرتفعة جداً، خصوصاً بالنسبة للشركات السبع الكبرى المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مع التركيز على شركة إنفيديا.. هذه التقييمات المرتفعة تدل على موجة تصحيحية محتملة أكثر من كونها فقاعة.
ويشدد على أن النتائج الفصلية للربع الرابع من العام 2024 ستكون حاسمة في تقييم أداء الشركات، مشيراً إلى أن مؤشر S&P 500 سجل ارتفاعاً بنسبة تتجاوز 20 بالمئة، مرتفعاً لعامين متتاليين. ومع ذلك، فإن التصحيح في السوق أمر محتمل نتيجة لضغوط على أرباح الشركات، خاصة في القطاع التكنولوجي.
ويتطرق خبير أسواق المال إلى دور الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في التأثير على الأسواق، مشيراً إلى تحول سياسة التشديد النقدي إلى التيسير. وبينما كان الاتجاه في السابق يشير إلى خفض الفائدة 100 نقطة أساس في العام 2025، يبدو أن التوقعات الآن تتجه نحو 50 نقطة أساس فقط.
ويضيف: "الذكاء الاصطناعي يُعتبر المحرك الأساسي للقطاع التكنولوجي"، لكنه يحذر من أن الاستثمارات الضخمة في هذا المجال قد لا تحقق النتائج المرجوة على المدى القصير، مما قد يؤدي إلى ضغوط إضافية على القطاع.
وفي حال حدوث تصحيح، يرى يرق أن التصحيح سيكون "صحياً"، حيث يعيد ترتيب السوق ويتيح فرصاً جديدة لإعادة الشراء وارتفاعات إضافية.
كما يشير يرق إلى أن الاقتصاد الأميركي، الذي يُعتبر الأكبر عالماًا، يتمتع بنمو جيد، مع توقعات بنمو يزيد عن 2 بالمئة في العام الجاري. ومع عودة دونالد ترامب، يوضح أن سياساته الجمركية والضريبية قد تضيف بعض الضبابية إلى المشهد الاقتصادي. ويختتم حديثه بالقول إن الانتظار لمعرفة نتائج الشركات والسياسات الاقتصادية المقبلة ضروري، مع عدم استبعاد حدوث تصحيح في السوق.
مرحلة ما قبل الفقاعة
مدير مركز رؤية للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بلال شعيب، يشير لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن المستوى المرتفع للأسعار في الأسواق يمثل مصدر قلق كبير، إلا أن الحديث عن وصول سوق الأسهم الأميركية إلى مرحلة "الفقاعة" يتطلب دلائل أكثر وضوحاً مما هو قائم حالياً.
ويشدد على أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تبنى على مدار أكثر من عامين سياسة التشديد النقدي. ومع تخلّي الفيدرالي عن هذه السياسة والانتقال إلى سياسة التيسير، فإن ذلك قد يدفع الأسهم لمزيد من الارتفاع استجابة للطلب المتزايد عليها، مما قد يؤدي إلى مستويات مفرطة في الأسعار.
ويضيف: السلوك الاستثماري للمساهمين والمستثمرين يلعب دوراً أساسياً في عمليات المضاربة، والتي تسهم بدورها في رفع الأسعار وخلق فقاعات في سوق الأسهم، مؤكداً أن ارتفاعات كبيرة حدثت في بعض القطاعات النوعية، مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، خاصة في ظل الأوضاع السياسية العالمية، بما في ذلك عودة ترامب إلى المشهد وسياسات الفيدرالي والبنوك المركزية حول العالم.
ويعتقد بأن سوق المال تشهد فترة قد تُصنّف على أنها مرحلة "ما قبل الفقاعة"، حيث لم تصل بعد إلى تلك المرحلة، ولكنها تتسم بمستويات أسعار مرتفعة للغاية.