تشهد سوريا منذ سنوات أزمة إنسانية واقتصادية عميقة، تفاقمت بفعل العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها دول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذه العقوبات، التي استهدفت نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد وحلفاءه، خلفت آثاراً بالغة الوطأة على حياة السوريين، وتسببت في تدهور حاد في الخدمات الأساسية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
في محاولة لتخفيف حدة الأزمة الإنسانية، أعلنت الولايات المتحدة أخيراً عن إعفاءات مؤقتة من بعض العقوبات المفروضة على البلاد، والتي تسمح ببعض المعاملات التجارية والإنسانية. أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعاً، وتساءل الكثيرون عن أهدافها ودلالاتها، وهل هي بداية لنهاية العقوبات، أم مجرد خطوة تكتيكية مؤقتة؟ وهل ستنجح هذه الإعفاءات في تحسين الأوضاع المعيشية للسوريين، أم أنها مجرد مسكن مؤقت؟
وأصدرت الولايات المتحدة إعفاء من العقوبات على المعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا لمدة ستة أشهر في محاولة لتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية، ويسمح الإعفاء، المعروف باسم الترخيص العام، أيضاً ببعض معاملات الطاقة والتحويلات الشخصية إلى سورية حتى السابع من يوليو المقبل.
وتعاني سوريا نقصا حادا في الطاقة، إذ لا تتوفر الكهرباء التي توفرها الدولة إلا لساعتين أو ثلاث يوميا في معظم المناطق، وتقول الحكومة المؤقتة إنها تهدف إلى توفير الكهرباء لثماني ساعات يوميا في غضون شهرين.
وبالنسبة للمعاملات المسموح بإجرائها، ذكرت وزارة الخزانة الأميركية أن خطوة الإعفاء من العقوبات تهدف إلى "المساعدة في ضمان عدم إعاقة العقوبات للخدمات الأساسية واستمرار الحكومة في أداء مهاهما في جميع أنحاء سورية، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي".
وأوضحت وزارة الخزانة أن الترخيص الجديد يسمح بتوسيع الأنشطة والمعاملات المسموح بها مع سورية، مع التأكيد على استمرار مراقبة التطورات السياسية في البلاد.
وأكدت الوزارة أن هذا القرار يبنى على الإعفاءات السابقة التي تتيح للمنظمات الدولية وغير الحكومية العمل داخل سورية. وتشمل هذه الأنشطة المساعدات الإنسانية وجهود الاستقرار في المناطق المتضررة، ويجيز الإجراء المعاملات لدعم بيع الطاقة، بما في ذلك البترول والكهرباء، أو توريدها، أو تخزينها، أو التبرع بها إلى سوريا أو داخلها.
ووفق وزارة الخزانة الأميركية فإن عقوبات واشنطن على الأسد وشركائه والحكومة السورية والبنك المركزي السوري وهيئة تحرير الشام لا تزال قائمة، وشددت على أنها لم ترفع الحظر عن أي ممتلكات أو مصالح أخرى لأشخاص أو كيانات مدرجة حاليا على لائحة العقوبات.
جدل حول مستقبل العقوبات
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي السوري، الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي: "أثار إعلان الولايات المتحدة عن إعفاءات مؤقتة من العقوبات المفروضة على سوريا، جدلاً واسعاً حول مستقبل هذه العقوبات وتأثيرها على الاقتصاد السوري. هذه الخطوة جاءت في أعقاب التغيير السياسي الكبير الذي شهدته سوريا مؤخراً بعد سقوط نظام بشار الأسد، وقد أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية ترخيصاً عاماً يوسع نطاق الأنشطة والمعاملات المسموح بها في البلاد".
وأوضح أن هذه الإعفاءات تشمل السماح بإجراء معاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا، بما في ذلك الإدارات والوكالات ومقدمي الخدمات العامة. كما تسهل معاملات الطاقة، بما يشمل بيع وتوريد وتخزين البترول والكهرباء، بالإضافة إلى السماح ببعض التحويلات المالية الشخصية المحددة. يمتد هذا الإعفاء لمدة ستة أشهر بعد سقوط نظام الأسد، ويهدف إلى تسهيل تدفق المساعدات الإنسانية وضمان استمرار الخدمات الأساسية خلال الفترة الانتقالية.
وتسعى واشنطن من خلال هذه الخطوة إلى دعم الاستقرار في مرحلة ما بعد نظام الأسد، الذي استمر جاثما على صدور السوريين لأكثر من نصف قرن، وضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للسوريين، مع تسهيل وصول المساعدات الإنسانية ومراقبة التطورات السياسية في سوريا عن كثب. ومن المتوقع أن تساهم هذه الإعفاءات في تحسين الوضع الإنساني للسوريين من خلال تسهيل وصول الخدمات الأساسية، وفتح المجال أمام بعض الأنشطة الاقتصادية المحدودة، خاصة في قطاع الطاقة، بحسب تعبيره.
تشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية
وأضاف الدكتور المصبح: "هذه الخطوة تأتي في إطار استراتيجية أميركية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل العلاقات مع سوريا في مرحلة ما بعد الأسد. فبالإضافة إلى تخفيف بعض القيود، تسعى الولايات المتحدة إلى تشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلاد. وقد صرح مسؤولون أميركيون أن هذه الإعفاءات تهدف إلى دعم الجهود الإنسانية وتعزيز الحكم المسؤول في سوريا خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة".
ومع ذلك، يرى المصبح "أن هذه العقوبات ستبقى سيفاً مسلطاً على الإدارة الجديدة لضبط تصرفاتها حيال العديد من الملفات الحساسة. فالولايات المتحدة تحتفظ بحق إعادة فرض العقوبات أو تشديدها إذا رأت أن الحكومة الانتقالية لا تلتزم بمعايير حقوق الإنسان أو تفشل في تحقيق إصلاحات سياسية جوهرية". كما أن واشنطن تراقب عن كثب كيفية تعامل الإدارة الجديدة مع قضايا مثل حماية حقوق الأقليات، مكافحة الإرهاب".
في الوقت نفسه، تدرك الإدارة الأميركية أن الاستمرار في فرض عقوبات شاملة قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مثل تقويض الاستقرار الهش في سوريا أو دفع البلاد نحو التحالف مع قوى إقليمية معادية للغرب. لذلك، فإن هذا النهج المتوازن يهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين الضغط على الحكومة الجديدة لتحقيق إصلاحات، وبين منحها الفرصة لإعادة بناء البلاد وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين السوريين، طبقاً لما قاله الدكتور المصبح.
كما أشار أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي أن هذه الإعفاءات تمثل خطوة حذرة من قبل الولايات المتحدة نحو تخفيف العقوبات، لكنها لا تشير بالضرورة إلى رفع كامل وشيك. فالإدارة الأميركية تتبنى نهجاً متحفظاً، حيث صرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن الولايات المتحدة منفتحة على تخفيف العقوبات عن سوريا، ولكن ليس بعد.
وأضاف: وتمثل هذه الإعفاءات، أيضاً، نافذة أمل اقتصادية محدودة لسوريا، لكنها لا تزال بعيدة عن الرفع الكامل للعقوبات. ويبقى الطريق طويلاً أمام سوريا لاستعادة عافيتها الاقتصادية، وسيعتمد ذلك بشكل كبير على قدرة الحكومة الجديدة على كسب ثقة المجتمع الدولي وتحقيق الإصلاحات المطلوبة. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة تمثل بارقة أمل للشعب السوري الذي عانى لسنوات طويلة من تبعات الحرب والعقوبات الاقتصادية".
تحرك إيجابي
بدوره، قال الدكتور نضال الشعار، كبير الاقتصاديين في شركة "ACY" ووزير الاقتصاد السوري السابق، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "الإعفاءات المؤقتة يمكن أن تُعتبر بداية لرفع كامل للعقوبات، حيث إن الإعفاءات عادة ما تكون مشروطة بأفعال محددة. إذا تم تحقيق هذه الأفعال خلال فترة الستة أشهر المحددة لتخفيف العقوبات، فمن المحتمل أن تكون هناك خطوة لاحقة نحو رفع العقوبات بشكل كامل".
ومع ذلك، فإن هذا المسار ليس سهلاً، خصوصاً عندما نتحدث عن سورية، التي تواجه عقوبات منذ عام 1979، والتي تؤثر على جميع جوانب حياة السوريين، وليس فقط الجانب الاقتصادي. لذلك، فإن عملية رفع العقوبات بشكل نهائي ستستغرق وقتاً أطول بعد انتهاء فترة الستة أشهر، بحسب تعبيره.
وأضاف الدكتور الشعار: "ما قامت به الإدارة الأميركية هو تحرك إيجابي بكل معنى الكلمة، ويمثل إشارة إلى أن الولايات المتحدة ليس لديها ما نع من أن تكون هناك إدارة جديدة في سورية بحيث تكون هذه الإدارة منسجمة مع متطلبات المجتمع الدولي فيما يتعلق بالديمقراطية والتشاركية، والابتعاد عن جعل الدين متحكماً في أفعال الإدارة الحالية أو الجديدة. هذا التحرك الإيجابي سينعكس على المواطن السوري بشكل جيد".
وتابع: "فيما يخص الطاقة، شهدنا تقدماً واضحاً بفضل التعاون مع تركيا وقطر، كما رأينا تدفق البضائع من تركيا والأردن ولبنان لتلبية احتياجات السوق السورية، التي كانت تعاني من نقص. تخفيف العقوبات والسماح بتحويلات مالية لأغراض إنسانية وإغاثية سيمكن الحكومة السورية من الحصول على دعم من الدول المحيطة والدول العربية لتغطية التكاليف، مثل الرواتب والأجور. وفي الوقت نفسه، فإن السماح للمواطنين السوريين في الخارج بإجراء تحويلات بشكل رسمي وعلني سيخفف من الضغوط على هؤلاء المواطنين، سواء لإرسال الأموال إلى عائلاتهم أو لإعادة بناء الممتلكات المدمرة".
وأشار الخبير الاقتصادي الشعار إلى أنه "عندما تكون أي دولة لا تخضع لعقوبات أو قيود ستتمكن من تسهيل العمليات الإنتاجية والتجارة الدولية، سواء في الاستيراد أو التصدير، مما يعد محركاً أساسياً للاقتصاد. الاقتصاد السوري لا يمكن أن يعمل بمعزل عن الاقتصادات المحيطة، مثل تركيا، العراق، لبنان، الأردن، ومصر. التكامل مع هذه الاقتصادات ضروري لتحقيق نمو اقتصادي معقول".
علاوة على ذلك، فإن عودة المهجرين برؤوس أموالهم ومهاراتهم ستساهم في تحقيق النمو الاقتصادي. وبالتالي، فإن رفع العقوبات سيكون عاملاً أساسياً لتحقيق هذا الهدف، طبقاً لما قاله الدكتور الشعار.